ماذا بعد دعم تركيا لفوضى«الربيع العربي»؟

عقب الانبطاح التركي أمام سورية وغيرها من الدول العربية الفاعلة، وبعد أن حاول حزب العدالة والتنمية الإسلاموي الحاكم في تركيا إيهام الجمهور العربي أنه الأكثر حرصاً على قضية فلسطين وغيرها من قضايا المنطقة، وأنه الأكثر عداء للصهيونية وقادتها، عملت الحكومة التركية على نشر الفوضى والتخريب في الدول العربية، من خلال تدخّلها السافر في قضاياها وعملها الحثيث على تدميرها، انطلاقاً من تعريف أحمد داود أوغلو لدور تركيا في المناطق المجاورة وفي السياسة الدولية، وتحديد (عمقها الاستراتيجي) الذي يتخطى في أذهان صانعي السياسة الخارجية التركية حدود البلاد. فبعد تطوير داود أوغلو لسياسته الخارجية على قاعدة تصور جغرافي جديد وضَعَ حداً لما يسميه (استعداء) البلدان المجاورة لتركيا،دخلت تركيا في أتون تسعير جحيم المنطقة العربية عموماً، والعراق وسورية خصوصاً، منتقلة في ذلك من سياسة (تصفير المشاكل) مع دول الجوار والعالم إلى سياسة (تصفير الصداقات) وخلق بؤرٍ مشتعلة وتنمية أحقاد دفينة في غير دولة من دول الإقليم والعالم.

وتنطلق تركيا من دورها السلبي المؤثر في العراق من أربع مسائل رئيسية هي: المياه، والأمن، والاقتصاد، والرغبة بالعودة إلى المنطقة من بوابة (الثورات المزعومة). وعلى الرغم من أنه بدا واضحاً أن ثمة مخاوف لدى أنقرة من أن تفضي أحداث المنطقة إلى تراجُع علاقاتها مع الدول العربية، إلا أن استرجاع خبرة ما بعد سقوط الإتحاد السوفيتي، بما مثّله من مخاطر تراجُع أهمية تركيا الإستراتيجية بالنسبة للتحالُف الغربي، وما شكله من فُرص وقُدرة أكبر على الحركة في دول وسط آسيا وظهور تركيا باعتبارها تُمثل نموذجاً لدول العالم الإسلامي، قد دفع بضرورة إعادة تكيُّف الدور التركي في المنطقة سعياً لاستغلال الفُرص التي يُمكن أن يُشكلها (الربيع العربي)، خصوصاً بعد أن أكدت (الثورات العربية) أهمية تركيا (الدور) و(النموذج) بالنسبة لدول المنطقة.

وقد عبّر عن ذلك الناطق باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالين، حين أكد أنه على عكس مما يرى البعض، فإن التغيُّرات في منطقة الشرق الأوسط ستُعزز موقع تركيا، وستُخرِج تركيا رابحة في إطار عالم عربي أكثر ديمقراطية، معبراً عن قناعته بأن تركيا يجب أن لا تقلق من التغيُرات الدراماتيكية التي شهدتها المنطقة، لأن أنقرة تُدرك أن الشعوب العربية تتقدم على حكامها من ناحية النظرة الإيجابية إلى الدور التركي في المنطقة.

وفي هذا يرى عدد كبير من الخبراء والعارفين بالشأن التركي أن (الربيع العربي) من شأنه أن يُسهِم في تعزيز قدرة تركيا على وضع استراتيجية (العثمانية الجديدة) موضع التطبيق. من خلال التركيز على مفهوم الدبلوماسية والقوة الناعمة Soft Power من أجل تعميق التعاون الاقتصادي والدبلوماسي ومُضاعفة نفوذ تركيا الثقافي، بما يضمن مصالح تركيا في أن تتحول إلى قوة إقليمية كبرى. وعلى الرغم من أن التغيُّرات في منطقة الشرق الأوسط كان لها الكثير من التداعيات على القُدرة التركية على تطبيق استراتيــــجية (ZeroProblems)))، إلا أنه من المُرجح أن تزداد أهمية الدور التركي في المنطقة إذا ما أمكن توثيق العلاقات مع بعض الأنظمة في المنطقة، لاسيما تلك التي أتت عقب ما عرف بـ(الثوارت الربيعية).

من جهة أخرى استغلت أنقرة تطورات المشهد السياسي في دول (الربيع العربي) لتوثيق علاقاتها الدولية، من خلال إعادة تأكيد محورية الدور التركي لكل من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي، وحتى الكيان الصهيوني، وذلك من خلال إعادة توظيفه في خدمة الاستقرار الإقليمي في المرحلة الجديدة، وهو ما ظهر جليّاً في تزايد التقارب التركي-الأمريكي، والتركي – الصهيوني، في ضوء التنسيق المشترك حيال التعامل مع الملف السوري، وإزاء طرق استيعاب التيارات الإسلامية التي تصاعد حضورها في المشهد السياسي العربي خلال المراحل الانتقالية. وتجدر الإشارة إلى أن انحسار صعود تيار الإسلام السياسي في مصر وتونس وانجرافه في أتون حرب عبثية ضارية في سورية وليبيا شكل تحدياً حقيقياً لفاعلية السياسة الخارجية التركية المؤدلجة المرتكنة إلى دعم تلك التيارات الإسلامية، ما تسبب في خسائر لأنقرة متعددة الأوجه على الصعيدين السياسي والاقتصادي.

إن الحكومة التركية غفلت وتجاهلت حقيقة لابد منها هي أن هذا النظام الإسلاموي في تركيا قد خسر كل الأصدقاء، وبقيت تركيا في حالة حرب واستنزاف عبثية مع جيرانها وبعض حلفائها السابقين، ومن شأن الفوضى التي عملت تركيا على دعمها في المنطقة العربية أن تأكل تركيا ونظام حكمها.

العدد 1107 - 22/5/2024