كيف صارت الخيانة حرية رأي وتعبير؟

 تتزايد يوماً بعد يوم مظاهر التطبيع مع الكيان الصهيوني من قبل دول إقليمية أو مجموعات سياسية أو زعامات دينية  أو نخب مثقفة أو غيرها، دون أية إدانة لهذه المظاهر، وكأن إجراءات المقاطعة قد ألغيت في وقت لم يزل فيه هذا الكيان الصهيوني الغاصب وغير الشرعي يحتل أراضي فلسطينية وسورية، ويمارس أبشع الجرائم بحق المواطنين العرب داخل مناطق نفوذه وخارجها، ويعلن بكل عنجهية يهودية دولته ويطالب الآخرين بالاعتراف بها، فمن الضروري التذكير ببعض خفايا ملف التطبيع الأسود والمخجل هذا.

يعتبر(الرئيس المصري الأسبق) أنور السادات الأب الروحي لهذا الملف وللوطنية العربية السلطوية المزيفة، وتعود شهادة وزير الخارجية الأمريكية الأسبق هنري كيسنجر بذكائه وبأنه مناور من الطراز الأول إلى واقعة فاضحة مبدعة في مازوشيتها وردت في كتاب محمد حسنين هيكل (أكتوبر 73 السلام والسياسة)- ص ،689 ويروي فيها هيكل تفاصيل لقاء الرجلين السادات وكيسنجر، إذ طلب الأول من الثاني الكف عن تقديم مقترحات ومبادرات تحمل اسم الولايات المتحدة أو علمها وقال: (إذا جاءتكم فكرة أو خطرت لكم مبادرة فأعطوها لي وأنا أقوم بطرحها باعتبارها مبادرة مصرية لأن شعوب المنطقة ترسّب لديها شك كبير في أي شيء تتقدمون به أو تتقدم إسرائيل به، إذا اقترحت إسرائيل شيئاً وقبلته أنا فسوف أجد من يصيح في وجهي: خيانة، وإذا اقترحتم أنتم – أمريكا – وقبلت أنا فسوف أجد من يصيح في وجهي بأن هذه تبعية، وأما إذا تقدمت أنا باقتراح أو مبادرة ولم تعجب الآخرين فأقصى ما يمكن أن يقولوه أنه خطأ، ولكن عندما تقبلون أنتم اقتراحي وتقبل إسرائيل فإن هذا القبول سوف يبين أن رأينا هو الذي ساد، مما يعطي المصريين نوعاً من الرضا كفيلاً بتهدئة المشاعر).

هذه الواقعة المخجلة جرت أثناء لقاءات السادات كيسنجر التي رسمت اتفاقية كامب ديفيد 1978 وزيارة السادات للقدس المحتلة 1979 التي جرت تحت غطاء اجتياز الحواجز النفسية، وقد قدّم السادات نفسه للكنيست الإسرائيلي فيها كرسول سلام فلم يكن رد مناحيم بيغن وزير الخارجية الإسرائيلية غير السخرية والاستخفاف، فبعد استعراض تاريخي توراتي أظهر فيه قدرة اليهود على صنع المعجزات أضاف:(بالعقل اليهودي + المال العربي يمكن صنع المعجزات) (حداثة العرب وعرب الحداثة)- ص 202.

بهذه الاتفاقية والزيارة بدأ عهد الخراب الكبير الذي تعاني المنطقة برمتها نتائجه الدامية اليوم والذي عنوانه السلام، والحدثان هما مدخل تحولاتها الجذرية، حسب اعتراف شلومو بن عامي المسؤول الإسرائيلي (من أصل مغربي) والشاهد على مفاوضات كامب ديفيد، إذ قال إن (الزيارة غيّرت قواعد الصراع وقلبت موازينه)- ومن أكثر نتائجها وحشية كان الغزو الإسرائيلي للبنان 1982- ويذكر شلومو بن عامي أن بيغن وجد فرصته وهو مطلق اليدين في التعامل مع التحدي العسكري الذي تشكله سورية والفصائل الفلسطينية في لبنان، أما النتائج الأخرى فكانت تسيّد خطاب سياسي جديد في العالم العربي بديل لخطاب المقاومة، وتهافت المزيد من الدول العربية للتطبيع وتوقيع معاهدات مشابهة.

من الجدير بالذكر أن السادات كان يعتقد أن تخلّي مصر عن خيار الحرب لن يترك فرصة أمام سورية سوى اللحاق به، لكن سورية بقيت متمنعة وممانعتها هي أحد أهم الأسباب للهجوم الشرس الذي تتعرض له اليوم، في وقت تتكالب العديد من القوى المعارضة السورية لكسب رضا الكيان الصهيوني علناً.

وتعتبر اتفاقية كامب ديفيد من المظاهر الفظة للوصاية الأمريكية على الأمم المتحدة، فقد تخطت الشرعية الدولية وتعارضت في نصها ومضمونها مع قراري مجلس الأمن 338 و242 وصيغة جنيف للحل الدولي، وفرضت على المجلس بالقوة صيغة جديدة، كما قضت على النجاحات السياسية العربية بعد هزيمة 1967 المتمثلة بقرارات الأمم المتحدة حول الاستيطان والمستوطنات وعودة اسرائيل إلى حدود ،1967 ومن خلال تطرقها للموضوع السوري واللبناني ولحقوق الشعب الفلسطيني خرقت أيضاً قواعد المعاهدات الدولية التي تقضي بأن لا تلزم هذه المعاهدات الا عاقديها، إضافة إلى خرقها ميثاق الجامعة العربية ومعاهدة الدفاع العربي المشترك، ولكونها عقدت بين طرفين غير متوازنين في القوة فقد أملت شروط القوي على المهزوم القادم كرسول سلام خالي الوفاض من بين قبور مئات آلاف الشهداء الذين قضوا هدراً في هذا الصراع، ليستجيب مضطراً لطلب اسرائيل بعقد اتفاق منفرد، في حين كانت سورية مصرة على الحل الشامل والعادل وبشرط انسحاب اسرائيل من الأراضي العربية المحتلة وضمان حقوق الفلسطينيين، وبضمن ذلك حق العودة. وهنا كانت الطعنة الغادرة الثانية للسادات في ظهر سورية، بعد الطعنة الأولى حين تركها تقاتل وحيدة في الميدان، ولم يكتفِ بذلك، فقد تعهد بإلغاء المقاطعة العربية لإسرائيل من جانب واحد، وحماية الرعايا الإسرائيليين في الدول العربية، واقامة علاقات اقتصادية وسياسية وثقافية مع كيان العدو.

 وبموت السادات أكمل خلفاؤه السياسة نفسها شيئاً فشيئاً، فكان إعلام حسني مبارك وبعده  قناتا الجزيرة والعربية وغيرهما منابر لتكريس ثقافة الهزيمة تلك وإظهارها بصفتها حرية رأي وتعبير وشفافية وغيرها من المصطلحات الموحية بمسايرة التطور وكنس الماضي، حتى صار لتلك الثقافة جمهور وأنصار يدافعون عنها، ويستغل بعضهم تراجع القضية الفلسطينية واشتعال الصراع الطائفي المذهبي لتمرير التطبيع وكأنه أمر واقع مع الأسف.

العدد 1105 - 01/5/2024