قراءة في الحملة الروسية على الإرهاب

 على الرغم من توقعات بعض المحللين والمتابعين للشأن السياسي العربي والدولي، بأن الموقف الروسي الداعم لسورية سيتراجع بعد فترة من بدء الحرب الإرهابية التدميرية على سورية، إلا أن الأحداث أثبتت أن هذا الموقف بدأ يأخذ منحىً أكثر صلابة ورسوخاً لصالح الدولة السورية، ووقوفاً في وجه المنظمات الإرهابية التكفيرية ورُعاتها، لاسيما أن هذه التنظيمات بدأت تهدد السلام العالمي ودول العالم بأسره.

والحقيقة أن لاشيء يعادل التشبث الروسي بسورية، والوقوف معها في وجه الحملة الإرهابية التي تتعرض لها، ومن خلالها بالبحر الأبيض المتوسط، نظراً إلى أهمية سورية وخطورة ما تتعرض له، وأهمية المتوسط، وخوفاً من تسلل الإرهاب من خلاله إلى العالم بأسره، فهذا البحر هو بوابة أوربا والبحر الأسود، واستتباعاً روسيا ذاتها، إنه الخاصرة الرخوة للأمنين الأوربي والروسي على حد سواء.

 والحقيقة أن الصراع الدولي على البحر الأبيض المتوسط يُمثل أحد عوامل التمسك الروسي بسورية منذ العهد السوفيتي حتى يومنا هذا، لأهميته الإستراتيجية للقوى العظمى. مع العلم أن مجموعة من القطع البحرية الروسية كانت موجودة بصفة مستمرة في البحر المتوسط إبان الحقبة السوفيتية، وتحديداً منذ عام ،1967 بينما كانت مجموعة أخرى توجد في المحيط الهندي، وقد عادت هذه القطع إلى قواعد الأسطول الروسي بعد سقوط الدولة السوفيتية.

 وفي حسابات التاريخ والحاضر معاً، لا يُمكن فصل حالة الأمن في البحر الأسود عن الوضع السائد في البحر المتوسط، وبمنظور القوى الكبرى، فإن من يخسر في أي من البحرين يكون قد خسر بالضرورة في البحر الآخر، ومن يتقدم في أحدهما يتقدم في الآخر أيضاً. وهذه معادلة تدركها روسيا والقوى الغربية على حد سواء. وهنا، يبدو من المفيد التذكير بأن البيئة الجيوسياسية للبحر الأسود قد تغيّرت على نحو جوهري، قياساً بما كانت عليه حتى الأمس القريب، ذلك أن بلغاريا ورومانيا أصبحتا عضوين في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، كما أصبحت أوكرانيا وجورجيا دولتين مستقلتين.

باختصار، فقد بات البحر الأسود منطقة نفوذ أطلسية، تضررت فيها مكانة روسيا ودورها التاريخي، وكان هذا أحد العوامل الدافعة باتجاه تعزيز موقع البحر المتوسط واستتباعاً موقع سورية في السياسة الروسية الراهنة. كما أن سورية تعتبر من حلفاء موسكو الاستراتيجيين ولا يمكن لموسكو أن تخسر حليفاً مهماً كسورية. وقد ظهرت سورية كفرصة ليتعلم الجيش الروسي من الاختبارات التي تعرض لها في حربه في جورجيا عام 2008. فالطائرة المقاتلة (سو 34) لم تظهر في ميدان المعركة قبل ظهورها في سورية، بينما تذهب القوات الروسية إلى الحرب مع مزيج من الطائرات القديمة وبعض المنصات الجديدة التي تحتاج إلى اختبارها في أرض المعركة جنباً إلى جنب مع طيارين يحاولون تطويعها في بيئة جديدة.

 والحقيقة أن ضرب روسيا للتنظيمات الإرهابية في سورية ومنعها من التمدد يهدف أول ما يهدف إلى منعها من الانتشار، وبالتالي مساهمتها مع الولايات المتحدة الأمريكية بتشكيل خارطة جديدة للمنطقة العربية، خارطة تقوم على تفتيت المفتت وتمزيق الممزق، كما أن روسيا تنتهز الفرصة من أجل إعادة دورها في الشرق الأوسط الذي فقدته في سبعينات القرن الماضي. وإضفاء الطابع القومي على السياسة الخارجية الروسية، والتأكيد على ضرورة استرداد روسيا للمكانة التي افتقدتها منذ قيامها، وإنهاء الانفراد الأمريكي بموقع القمة.

 وحسب رؤية القيادة الروسية، فيجب اتباع خطة إستراتيجية وعقلانية تفضي إلى إحلال التعددية القطبية محل هذا الانفراد، وعلى نحو يتناسب أكثر واتجاهات العالم الجديد. والاتفاق مع دول الجوار الإقليمي حول كيفية إقرار السلام والاستقرار في المنطقة. وهو ما أكده الرئيس الروسي أكثر من مرة لاسيما عندما قال: (لا يجوز تحديد قواعد اللعب في الاقتصاد والسياسة الدولية من وراء ظهر روسيا، أو بمعزل عنها وعن مصالحها)، مشيرًا إلى أن التعاون الدولي طريق ذو اتجاهين، ومشددًا، في الوقت نفسه، على السعي إلى التعاون البنَّاء والحوار في شأن قضايا مكافحة الإرهاب الدولي، والرقابة على الأسلحة، وصون الأمن العام. وألمح إلى أن الخطوات الانفرادية المشار إليها سلفًا سوف تلقى التقويم المناسب والرد المقابل. وأشار إلى أن روسيا استعادت خلال السنوات الأخيرة موقعها بين القوى العالمية الرئيسة، معتبرًا أن مكانتها الحالية وقدراتها تؤهلها للعب دور أوسع، وتجعل مشاركتها في الشؤون الدولية ضرورية أكثر فأكثر.

وفي خضم حملته شديدة اللهجة على الغرب قبل وعقب انتخابه رئيسًا لروسيا لفترة جديدة، حدَّد بوتين أولويات عمله رئيساً للدولة، مؤكدًا أن إعادة تسليح روسيا أصبحت ضرورية لمواجهة سياسة الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي في مجال الدفاع الصاروخي، مما يفرض عدم تخلي الدولة الروسية عن قدراتها للردع الإستراتيجي، التي اعتبرها مُشكِّلةً للضمانة الأساسية لبلاده، في إشارة إلى السلاح النووي، والصواريخ العابرة للقارات، والمقاتلات، والغواصات، وذلك من خلال أضخم برنامج للتسليح في روسيا منذ استقلالها عام 1991. وفي هذا الإطار، فقد عارض الرئيس الروسي سياسات الولايات المتحدة والغرب في مدّ مظلة حلف الناتو إلى الحدود الروسية، ورفض بشدة -ولا يزال- المشروع الأمريكي لبناء قواعد صواريخ مضادة في بولندا وجمهورية التشيك، مستخدمًا لغة قوية في رفض الهيمنة الأمريكية.

ومهما يكن من أمر فإن الضربات التي وجهها، ومازال سلاح الجو الروسي يوجّهها لتنظيم داعش الإرهابي أحدثت زلزالاً كبيراً ضرب أعماق هذا التنظيم وزعزع مؤيديه، وهي ضربات من شأنها أن تجعل الإدارة الأمريكية وأتباعها في المنطقة يعيدون النظر بمخططاتهم لإعادة رسم خارطتهم للمنطقة. لاسيما أن روسيا استطاعت إحداث تغيير مهم في المشهد الإقليمي القائم، خصوصاً بعد سعيها لإثبات قوتها وقدرتها على التغيير في الميدان ونجاحها في ذلك، لاسيما بعد انتقاداتها اللاذعة للتحالف الدولي، الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، لمحاربة الإرهاب، نتيجة عجزه عن وقف تقدم تنظيم داعش الإرهابي.

 إن ما تقوم به روسيا في سورية ما هو إلا رغبة جامحة بعدم السماح بإسقاط مؤسسات الدولة السورية، العسكرية والأمنية والسياسية، فضلاً عن منع الإرهاب من الانتشار والسيطرة على أماكن أخرى من سورية والمنطقة، وهو ما أكده الرئيس الروسي بوتين خلال خطابه الأخير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة والذي استبق فيه العمليات الروسية في سورية بالقول: لن نسمح لقاطعي الرؤوس هؤلاء بالعودة إلى بلادهم. وهي إشارة واضحة لأحد أهداف العمليات الروسية في سورية.

العدد 1107 - 22/5/2024