حرب روسية ــ تركية باردة… هل ستصبح ساخنة؟

هل يصل التصعيد بين أنقرة وموسكو إلى درجة المواجهة المباشرة؟ هذا السؤال فرض نفسه على الصعيد الدولي في ظل توتر العلاقات القائم ما بين تركيا وروسيا بعد حادثة إسقاط الطائرة المقاتلة الروسية (سو-24)، خاصة مع تمسك روسيا باعتذار رسمي من جانب السلطات التركية، واكتفاء تركيا بإبداء (الأسف) على لسان رئيسها.

ورغم استبعاد سيناريو الحرب ما بين البلدين، فإن هذا لم يمنع بعض المحللين من توقع اللجوء إليها، في ظل حالة التوتر القائمة والاتجاه نحو التصعيد، كذلك السؤال حول إمكانية تطور الصراع في حالة وقوعه إلى مواجهة مباشرة بين روسيا وحلف شمال الأطلنطى (الناتو)، الذي هرعت تركيا للاحتماء به.

سنحاول في هذا المقال تسليط الضوء على أوراق القوة التركية واستراتيجيات الرد الروسية، دون مناقشة أوراق القوة الروسية لأن الموازنات التقليدية كلها تصب في صالح روسيا الاتحادية، إن من ناحية القوة الصلبة أو الناعمة لها.

أوراق القوة التركية

1- الحدود الطويلة مع سورية، الأمر الذي يسمح لها بلعب دور حاسم في رسم الخريطة الميدانية-السياسية في شمال سورية وشرقها على الأقل، من خلال إدارة قرار الجماعات الارهابية وحركتها ، وتنظيم تدفق السلاح والمسلحين بما يخدم مخططاتها.

2- السيطرة على خزان ضخم من اللاجئين السوريين وغير السوريين وقدرتها على تحديد وجهة حركتهم، ومستوى حضور (قضيتهم) في الإعلام أو غيابها… هذه الورقة لعبها أردوغان ببراعة جعلت تأثيرها يهدد الاتحاد الأوربي.

3- إحدى أكبر الأقليات في جزيرة القرم التي استعادتها روسيا منذ عام تقريباً، من التركمان، وقد تعمد أنقرة إلى تحريضها للقيام بنشاطات معادية لموسكو.

4- للبحر الأسود، الذي يتوضّع فيه أسطول روسي ضخم، معبران فقط، الدردنيل والبوسفور، وهما تحت السيطرة التركية، ما يجعل تحويل البحر الأسود إلى بحيرة مغلقة (قراراً) تركياً.

5- كان لتركيا دور كبير في الحرب الروسية- الشاشانية، وغزو يوغسلافيا وتقسيمها، واحتلال أفغانستان.. وهذا يعني أن هناك أكثر من ساحة يمكن لتركيا (مشاغلة) روسيا بها.

استراتيجية الرد الروسية

تبنّت موسكو خطابًا تصعيدياً متدرجاً على أكثر من مستوى، فيما تبنت أنقرة خطاباً سياسيّاً وعسكريّاً مزدوجاً تراوح بين التصعيد والتهدئة، مع تحركات غير مباشرة هدفها محاولة الردع في مواجهة إجراءات روسية تصعيدية غير مسبوقة. وفيما يلي نلقي الضوء على مستويات الرد الروسية:

أولاً- على المستوى العسكري: اتخذت روسيا مجموعة من الإجراءات المتصاعدة والمرتبة بعناية، واستهدفت: من جانب أول، قطع الروابط العسكرية مع تركيا، ومن جانب ثانٍ، (عزل) سماء سورية، وإحباط أي حديث تركي أمريكي عن منطقة آمنة في شمال سورية، من خلال نشر منظومة صواريخ S400، ما حدّ من قدرة تركيا على شنّ أي هجمات جوية داخل الأراضي السورية، وذلك بعد (تغليف) الأجواء السورية، وإدراجها تحت سيطرة (النفوذ الجوي) الروسي، ليتكون ما يمكن أن نطلق عليه (حظر جوي انتقائي)، ومن جانب ثالث، تسليح المقاتلات الروسية بصواريخ جو – جو، بما يعني الاستعداد لأي مواجهة محتملة مع سلاح الجو التركي.

وفي موازاة ذلك، صعَّدت روسيا من استهداف القوى والميليشيات المسلحة كافة، المحسوبة على تركيا في الشمال السوري، وضربت كل خطوط إمداداتها، وجرى إخضاعها للسيطرة النارية الروسية المركزة، بهدف إحباط مخطط القيادات التركية لتطبيق قواعد الاشتباك التركية في الشمال السوري، وذلك انطلاقًا من استراتيجية رئيسية تتبناها القيادة الروسية تستهدف تحويل كل مشكلة يواجهها الوجود العسكري في سورية إلى فرصة لتعزيز شرعيته، وتوسيع نطاق العمليات العسكرية المقصودة منه، لتبدو وكأنها تنطلق من عقيدة دفاعية وليست استباقية هجومية.

ثانياً- على الصعيد السياسي: صعَّدت موسكو من لهجتها حيال تركيا، ورفضت عقد أية لقاءات ثنائية تجمع الرئيسين الروسي والتركي، كما أعلن الكرملين عدم عقد أي لقاء بين الجانبين على هامش قمة المناخ في فرنسا. وفي هذا الإطار بدا الخطاب الروسي تصعيدياً من خلال حلقات غير منفصلة تستهدف استنزاف تركيا سياسياً عبر تصريحات وإجراءات شبه يومية تتسم بالتصاعد التدريجي، لإبطال أي أفكار خاصة بأن الزمن كفيل (بردم القضية). وقد بدا من ذلك التركيز على قضيتين أساسيتين.

تتعلق الأولى بالتعاملات (المشبوهة) لتركيا مع التنظيمات الإرهابية في سورية، وهي تتضمن شراء النفط من تنظيم داعش، ويتورط فيها بعض أفراد عائلات الرئيس التركي ذاته، وكان الهدف الروسي من إعلان ذلك عبر منابر مختلفة منها وزارة الدفاع ذاتها، تأكيد جدية الاتهامات الروسية، وإثبات أن تركيا ليست معنية بمحاربة التنظيمات المتطرفة التي تستهدفها روسيا بالتنسيق مع بعض القوى الغربية كفرنسا، خصوصًا بعد الهجمات الإرهابية التي ضربت العاصمة الفرنسية باريس في 13 تشرين الثاني المنصرم.

أما الثانية فهي تتعلق بإحباط أي مشروعات سياسية لأنقرة تستهدف خلق فضاء جغرافي يمهد لخلق منطقة عازلة تحت نفوذها يمكن أن تضمّها لها حين تتهيأ الظروف الدولية المناسبة. الأمر الذي يعني أن المواجهة بالأساس بين الطرفين ارتبطت بامتلاك كل منهما تصوراً استراتيجياً مختلفاً لجغرافية الدولة السورية في المستقبل.

ثالثًا- على الصعيد الاقتصادي: اتبعت موسكو سلسلة متلاحقة من التدابير العقابية، شملت إلغاء إعفاء الأتراك من تأشيرة دخول روسيا، وحظر عمل مواطني تركيا في روسيا، ومطالبة المواطنين الروس بمغادرة تركيا، وإلغاء رحلات الطيران العارض (الشارتر) الجوية بين البلدين، وتوصية شركات السياحة بالامتناع عن تنظيم أي رحلات سياحية إلى تركيا، فضلاً عن وقف التعامل مع الشركات التركية التي قدّر حجم أعمالها في روسيا بما يتجاوز 60 مليار دولار، كما اتخذت إجراءات لوقف استثمارات تركية قدرت بما يناهز 10 مليارات دولار، كما احتجز عدد من رجال الأعمال الأتراك بعد توجههم للمشاركة في مؤتمر بموسكو. وقد أقرت روسيا إضافة إلى ذلك مجموعة من الإجراءات الانتقائية، منها وقف استيراد المنتجات التركية.

كما علقت العمل في مشروعات استراتيجية، أهمها مشروع خط السيل الجنوبي، وجمّدت أيضًا الاتفاقيات الخاصة بإنشاء المفاعلات النووية، والتي قدرت تكلفة بنائها بنحو 20 مليار دولار، وذلك من أجل إنجاز مشروع محطة (أك كويو) الذي يُمثل أول مشروع محطة نووية في تركيا، ويتضمن بناء 4 مفاعلات بقدرة 1200 ميغاوات.

لا تلعب مع الدب الروسي

هل كان الرئيس التركي أردوغان يعلم مدى خطورة اللعب مع (الدب الروسي) حين أسقط طائرة (السوخوي24)، التي كانت تقصف أوكار الإرهابيين في سورية؟ وهل درس شخصية فلاديمير بوتين، الرجل الذي قال عنه سلفه بوريس يلتسين بأنه الوحيد القادر على نقل روسيا إلى القرن الحادي والعشرين؟ أم أنه تعامل مع رئيس روسيا الاتحادية بمنطق سلطان عثماني يعتقد أنه يحكم العالم من مكتبه، وتناسى أنه رئيس دولة عظمى تملك القوة والقدرة على محو تركيا من خارطة العالم؟.

يبدو أن أردوغان لم يدرك أبداً الشخصية الروسية ولم يتجاوز تحليله دراسات فترة الاستعمار القديم للشخصية السلافية، ولم يحلّل آلية تفكيرها وردود أفعالها، واعتزازها بنفسها وبتاريخها.

إن اللهجة القوية التي يتحدث بها الرئيس الروسي، وتحذيره أن رد فعل موسكو لن تتوقف عند الخطوات الذي ذكرت سابقاً، يعني أن خطوات أخرى سُتتخذ ضد تركيا في المستقبل، خصوصاً اعتباره أن روسيا قد تعرضت لطعنة في الظهر، جعل تركيا توقف تحليق طائراتها في السماء السورية لضرب (داعش) رغم أن ضرباتها كانت وهمية، لأنها في الواقع كانت تقصف قواعد حزب العمال الكردستاني في العراق وسورية.

أردوغان يحاول الآن امتصاص الانفعال الروسي واحتواءه ، لكنه لم ينجح، فهو غير مستعد حتى للاعتذار، ولم تقبل روسيا كلامه الذي قال فيه إنه لم يعط الأوامر لإسقاط الطائرة. وفي ذلك إشارة حاسمة إلى أن سياسة تقبيل اللحى على الطريقة الشرقية، التي عول عليها أردوغان لامتصاص رد الفعل الروسي، لم تجد نفعاً.

إن حرب الاستنزاف الروسية السياسية والاقتصادية مستمرة مع العثمانيين الجدد الذين يحاولون بكل قوتهم أن لا تتحول إلى حرب حقيقية، لا سيما أن الإمبراطورية الروسية ربحت معظم حروبها مع العثمانيين القدماء، الأمر الذي كان أحد أهم أسباب انهيار الدولة العثمانية.

قال بيسمارك: (لا تحلموا بأن تجنوا الأرباح من روسيا إلى الأبد إذا نجحتم في استغلال ضعفها ذات مرة، فالروس يأتون دوماً لاسترجاع نقودهم!).

العدد 1107 - 22/5/2024