أبو العلاء المعرّي اعتزاله وعلاقته بالنجم سهيل

كتب الكثير عن أبي العلاء المعري، وقد يكون من الشعراء الفلاسفة القلائل الذين حظوا بهذا الاهتمام الكبير، سواء من النقاد أم القراء أو المهتمين بالأدب. وفي هذا البحث أود إلقاء الضوء على المعري الشاعر الفيلسوف مركّزاً على اعتزاله وعلاقته النفسية والعضوية بالنجم سهيل.

 فبعْدَ أن أتمّ المعري دراسته في بلاد الشام، قرّر أنْ يجرّب حظّه في بغدادَ، حاضرةِ الثقافةِ والعلمِ، فاتجهَ إليها، ظنّاً منه أَنَّها قادرةٌ على إعطائِهِ ما يسعى إليه: من متابعة تحصيله الثقافي، وجني المالِ ونوالِ الشهرةِ. لكنّه عادبعد سنةٍ ونيف إلى المعرّةِ، خائبَ الرجاءِ، وهو وإنْ حقّقَ الشهرةَ والعلمَ بالتعرّفِ على علماءِ بغدادَ وأدبائها وفقهائها وما حولَها، إلاّ أنه أخفِقُ في تحقيق سَعَةِ العيشِ، والثراءِ، وأنّى لشاعر كأبي العلاء، العفيف والضانّ بكرامته عن سؤال الناس، والممتنع عن التكسب بشعره، والذي لَم يمدح ملكاً ولا وزيراً ولَم يقبل هديّة أو عطيّة، أنْ يجمع ثروة؟ فضلاً عن تعرضه لحسد الحاسدين، وحقد الحاقدين، فانصرف عن مدينةِ السّلامِ لسببيْنِ، كما حدّث عن ذلك: أحدهما الفقر، والآخر مرضُ أمه، وعن ذلك يقول في قصيدة موجهة إلى أبي القاسم التنوخي:

أَثَارَنِي عَنْكُمُ أَمْرانِ: وَالِدَةٌ

لَمْ أَلقَهَا، وَثَراءٌ عَادَ مَسْفُوْتَا

أمّا الأسباب الأخرى التي دفعت لعودته واعتزاله، فمنها حادثة خلافه مع الشريف المرتضى خير دليلٍ، عندما ردّ على تعرّض المرتضى للمتنبي: بقوله (لو لم يكن للمتنبي إلاّ قوله:

(لَكِ يَا مَنَازِلُ فِي القُلُوبِ مَنَازِلُ)…..  لكفاه).

وكان يقصد التعريض بالمرتضى، بإشارته ضمناً إلى البيت التالي الوارد بالقصيدة:

وَإِذَا أَتَتْكَ مَذَمَّتِي مِنْ نَاقِصٍ

فَهِيَ الشَّهَادَةُ لِي بَأَنِّي كَامِلُ

فكان طرد المعري من مجلس المرتضى جرحَه الأول.

وثانيها قصته مع أبي الحسن عيسى الربعي النحوي، الذي أهان أبا العلاء الذي استأذنه الدخول عليه، فقال أبو الحسن حسداً له وعلى مسمعه بعد أن جعله ينتظر زمناً: (ليصعدِ الإصطبلُ) وتعني الأعمى بلغة أهل الشام، مما أغضب المعري ودفعه للانصراف.

هذه الأمور وغيرها دفعت أبا العلاء للعودة إلى المعرةِ، ليكون هناك بحق (رهين المحبسين)، محبس المنزل ومحبس العمى ، وأنا أراها خمسة محابس كما سيتبيّن لاحقًا.

 لقد أطلق المعري على نفسه بعد رجوعِه من بغدادَ، واعتزالِهِ الناسَ، لقب (رهين المحبسين)، قاصِداً بذلك منزله الذي اعتزل به، وفقدانه البصر الذي حبسه عن رؤية ما حوله، وزاد عليهما، كونَ النفس في الجسد الخبيث حيث يقول:

أَرَانِي فِي الثَلاَثَةِ مِنْ سُجُونِي

فَلاَ تَسْأَلْ عَنِ النَّبَأِ  النَّبِيْثِ

لِفِقْدِي نَاظِرِي، وَلُزُومِ بَيْتِي

وَكَوْنِ النَّفْسِ في الجَسَدِ الخَبِيْثِ

 فهل كان هذا الاعتزال وتلك السجون اختياراً من الشاعر أم مفروضةً عليه؟ برأيي هي سجون مفروضة على المعرّي، ألَم يقل في رسالته إلى خاله أنّه: (قد خُلقَ إنسيّ الولادة، وحشيّ الغريزة)، بعكس الشاعر بشار بن برد الذي كان برأي د. طه حسين: (إنسيّ الولادة، والغريزة) . وبالتالي ألا يستتبع هذا شيئاً ما، ألم يكن طبعه يهيّئه للعزلة، فالعمى بحد ذاته عزلة مفروضة، فليس جميع العميان قادرين على الانسجام في مجتمعاتهم، وبهذا لن تكون عزلة البصر اختياراً بل حكم الطبيعة، وهذه العزلة البصريّة ستهيّئ لعزلة أوسع، وأشمل، هي الانفراد، والبعد عن مخالطة الناس، فالكفيف مهما أوتي من ظرافة، وحسن حديث، ومعشر، لن يستطيع أن ينسجم انسجام المبصرين في المجتمع، ويستمتع بالحياة الاجتماعية، ولهذا فعزلة المعري مفروضة عليه، أمّا سجن الروح في الجسد، فهو بلا شك سجن خيالي فلسفي أُكْرِهَتِ النفسُ على أن تكون سجينة فيه، لا تغادره إلا حينَ يقبضها الموت، ولكي يعذّب هذه النفس جعلها تسكن جسداً خبيثاً، إنه التشاؤم، والحيرة من الوجود، والنزوع لمعرفة ما بعد الموت، قبل الخروج من هذه الحياة.

وأرى أن أضيف سجنين هامين آخرين، كبّل بهما فكره، وعقله، وجسده. أمّا السجن الأوّل فهو عندما حبس إبداعه وعطاءه الشعري في نظم (لزوم ما لا يلزم)، فكانت تلك القافية والروي، أخطر وأعظم من غيرهما من السجون السابقة، وهو يقيّد نفسه وذائقته وإيحاءه الشعري، بهاتين القافيتين اللتين طالما فرضتا عليه، أن يجدَّ في طلبهما ليستقيم العمل، ومن ثمّة يبحث عن الألفاظ، والمعاني التي تناسبهما، فيظهر التصنّع، وتسيطر تلك القافية التي أخذته أخذاً، فبات مطوّقاً بها، ينقاد لها أكثر من انقيادها له.

والسجن الثاني فهو جسدي عندما ألزم نفسه بأكل ما تنبته الأرض، وتمنّعه عن أكل ما ينتجه الحيوان من لحم وحليب وبيض وعسل وما يتعلق بها، فكان تضييقاً على تضييق، وإنّما تضييق الراضي المستكين. فما سلك هذا المسلك إلاّ من باب الحب للحيوان، واحتراماً ورأفةً به لما يتعب بجنيه، ثم أليس هذا مسلك الكثير من العظماء والفلاسفة الزاهدين الذين امتنعوا عن أكل منتج الحيوان؟.

  ولو وقفنا قليلاً عند عزلة المعري، فسنقف على أمور هامة، فهو طالب علم مجدّ، لم يكتف لا بالمعرة ولا بحلب ولا بأنطاكية، بل راح وراء العلم لا توقفه رغبة في عزلة أو اعتزال، وظلّ على اتصال بالناس يخالطهم ويخالطونه حتى سن الخامسة والثلاثين، تلك الفترة التي قرر فيها أن يطوّر معارفه، ويفيد بعلمه ويستفيد، فاختار بغداد مقرّاً لذلك، فهل عناؤه ومغامرته في الذهاب إلى بغداد بغية العلم ونهل المعرفة، يُشْتَمّ منه بغية اعتزال؟ وهل الاعتزال يكون من قرية قليلة السكان إلى حاضرة مكتظّة بالناس؟ إذن سفر المعري إلى بغداد كان هروباً من عزلة المعرّة، هروباً من وضع سياسي مضطرب في بلاد الشام، إلى فضاء اجتماعي أوسع، وسياسي مستقر وآمن، لكنْ لماذا بعد سنة ونصف من ذلك آثر مغادرة بغداد، والانفراد في بيته؟ لأكثر من خمسين عاماً، أهو الحنين إلى الوطن شدّه إليه، وجعله يغادر بغداد؟ يقول المعرّي إن عزلته التي اختارها، ما كانت لتحصل لو أنّه حقّق ما يصبو إليه من الحياة، ونال المآرب التي سعى إليها عندما غذّ راحلاً إلى بغداد حيث يقول:

فَمَا لِلْفَتَى إِلاَّ انْفِرَادٌ وَوَحْدَةٌ

إِذَا هُوَ لمْ يُرْزَقْ بُلُوغَ الُمَآرِبِ

فهل يمكن أن يكون اعتزاله له علاقة بعدم بلوغه مآربه، ثُمَّ ما هي مآرب المعرّي، العلم؟ وقد حصل عليه، ووصل إلى مصاف المعلمين الفلاسفة. الشهرة؟ أيضا حصل عليها وعمّت شهرته الآفاق، يبقى المال، فهل المال وحده كافٍ لأن يختار عزلة عن الناس عشرات السنين؟ يقول مشيراً إلى ذلك في لزوميّاته، فهو يرى أنّه مادام جاوز الخمسين، ولم يلق خيراً، فالموت سترٌ وغطاء له. يقول:

إِذَا كُنْتُ قَدْ جَاوَزْتُ خَمْسِيْنَ حِجَّةً

وَلَمْ أَلْقَ خَيْرًا فَالْمَنِيَّةُ لي سِتْرُ

في الحقيقة أمر اعتزاله أبعد من ذلك بكثير، ولم يأت عبثاً دون تفكّرٍ ورويّة، فليس المعري الذي يأخذ قراراً عشوائيّاً، لقد وُجِدَ في ديوانِ رسائله ما يشير إلى أسباب اعتزاله، ولزوم بيته جاء فيها:

() بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب إلى السكن المقيم بالمعرّة……بعد أن قضيت الحداثة فانقضت، وودّعتُ الشبيبة فمضت، وحلبت الدهر أشطره، وجرّبت خيره وشرّه، فوجدت أوفق ما أصنعه في أيام الحياة، عزلة تجعلني من الناس كبارح الأروى من سانح النعام….فأجمعت على ذلك…ليس بنتيج ساعةٍ، ولا ريب الشهر والسنة، ولكنّه غذيُ الحقب القادمة، وسليل الفكر الطويل….).  أكتفي بهذا القدر من الرسالة لنكتشف منها أنّه اعتزل بعد تفكير وروية وقرار مستشير، وعزلته لم تكن بسبب قلّة المال، ولا لأن البغداديين لم يحتملوه، إنما، كما قال، بسبب طبعه ومزاجه الوحشي عن الاختلاط بالناس، ألم يقل في رسالته لخاله إنّه: (إنسي الولادة، وحشي الغريزة)؟.

أتراه قد يئس من صلاح الحياة، وإنّها شاخت على فساد فلا أمل بإصلاحها، وإصلاح الناس، الذين باتوا يضمرون الشر له، فآثر الابتعاد عنهم لكيلا يصيبه ما أصاب فينيق ناقة صال،ح إذ قال:

واهْرُبْ مِنَ الناسِ مَا في قُرْبِهِمْ شَرَفٌ

إِنَّ الفَنِيْقَ إِذَا دَانَى الأَنِيْسَ عُقِرْ

ولا شكّ في أنّ اعتزاله وسجونه لم تكن لِتغيب عن باله، ولَطالما أشار إليها بشكل أو آخر، بأسلوب لا يخلو من دعابة، وعبثية أحياناً، إذ يقول:

ما لِي غَدَوْتُ كَقافِ رُؤْبةً قُيِّدَتْ

في الدّهْرِ لَمْ يَقْدِرْ لَها إِجْراؤها

إضافة إلى ما سبق ومن تكرار ما مرّ معي من شواهد، أرى أنّ المعري باعتزاله الناس، واختياره ذلك السجن الاجتماعي، كان يرى نفسه النجم سهيل، فتفنن في إبرازه كمدلول على حياته. فهو منعزل ومتفرّد يشع بنوره على من حوله، كما يضيء المعري بعلمه، وثقافته وحكمته، على من يقصده من طالبي العلم، فهو باعتزاله الناس لا يشعر بوحشة، مادام مع كتبه ومن يقرأ له، ومع فكره ونظمه ومن يكتب له، فهذا سهيل وحده فارد، ولكنه كالفارس الجريء، شجاع لا يوقفه شيء:

لاَ تُوْحِشُ الْوَحْدَةُ أَصْحَابَهَا

إِنَّ سُهَيْلاً وَحْدَهُ فَارِدُ

وقد أسهب في وصف نفسه تشبّهاً بسهيل، سهيل المحب والحيي، الحنون والشفوق، على الفقراء والناس، يحبّ الخير لنفسه ولغيره، إلاّ أنّه بالرغم من شفافيّته ورقته لا يضعف أمام الملمّات والحادثات، بل هو مستبدّ بأعدائه، معارض للفرسان، غضبه لا حدود له، لا يأبه لأحد، لهذا يشعُّ على الناس بأنواره، فمن يقرأ تلك الصفات ألا يراها في المعري، بانفراده واعتلائه مهد الثّريا، يشع بعلمه وأفكاره على العالمين، ويعارض المتبجّحين:

وَسُهَيْلٌ كَوَجْنَةِ الحِبِّ في اللَوْ

نِ وَقَلْبِ الْمُحِبِّ في الخَفَقانِ

مُسْتَبِدّاً كَأَنَّهُ  الْفَارِسُ الْمُعْ

لَمُ يَبْدُو مُعَارِضَ الفُرْسَانِ

يُسْرِعُ اللَمْحَ في احْمِرَارٍ كَمَا تُسْ

رِعُ في الَّلمْحِ مُقْلَةُ الغَضْبَانِ

ولا يلبث المعري أن يصرّح بذلك جهارة، فكاف الخطاب في البيت التالي تعود على الشاعر أكثر من الممدوح حيث يقول:

كأنّكَ مِنْ كَوَاكِبِهِ سُهَيْلٌ

إذا طَلَعَ اعتِزالاً وانْفِرادا

ولا يضير المعري أن يكون مصغّر الاسم، فالتصغير ليس عيباً برأيه، ليستشهد بالنجم سهيل على ذلك:

مَا حَطَّ رُتْبَتَكَ الحَسُودُ ومَا الذِي

ضَرَّ الأَمِيْرَ بِأَنْ يُقَالَ أُمَيِّرُ

وَسُهَيْلٌ اللمّاحُ صُغِّرَ لَفْظُهُ

فَانْظُرْ أَهَيَّرَهُ بِذَاكَ مُهَيّرُ؟

وهكذا تكون عزلة المعري حلماً ضائعاً، فزاد اختلاطه بالناس، عبر طالبي العلم الذين كانوا يأتون إليه من أصقاع الشام وبلاد الرافدين، فيأخذون عنه الفلسفة والعلم واللغة. ومع ذلك كان راضياً بحاله، قابلاً بما هو عليه من صبر واعتزال:

وَحَالِي خَيْرُ حَالٍ كُنْتُ يَوْماً

عَلَيْهَا، وَهْيَ صَبْرٌ وَاعْتِزَالُ!

العدد 1105 - 01/5/2024