محمد الفيتوري… شاعر الرحلة المستمرة

(الشعر معرفة، خلاص، سلطة، تمرين روحي ووسيلة تحرير داخلي.. الشعر يكشف العالم، والعملية الشعرية تخلق عالماً جديداً هو خبز المختارين، فهي برهان جميل لعظمة كل عمل إنساني فنّ).

هذا ما قاله أكتافيوباز، في كشفه لحقيقة الشعر وذهابه لعوالم القصيدة، حتى ليمكن أن يقال عنها إنها مواصفات لفن الكلمة الأعلى واللغة العالية، شريطة احترام الأسس، واستنباط أسس جديدة تفيض بالرؤيا والموسيقا، الرمز ومراسلات القوافي كأصداء للتناسق الكوني، لنتعّرف على الشاعر الذي يبرهنها ويعطيها دينامية ثقافية، يبدو شهودُ التجربة الشعرية أكثر شفافية-بحكم التجربة- لانفتاح ما هيتها على ما يمنحُ التأويل زخماً إضافياً لاستنطاق الذات الشعرية كضمير إبداعي.

ولعلّ الشاعر العربي محمد الفيتوري، هو واحد من شهود التجربة الشعرية العربية، دون تجاوز مجايليه ونظرائه، إذ تكتسب رحلته مع الشعر والكلمة طابعاً تراجيدياً خالصاً، لاسيما أنه شاعر رحلة مستمرة مفتوحة على الأمكنة والثقافات وجدليات الشعر والحياة، والارتطام بواقع مأساوي عربي، شكّل لديه رافداً للكتابة لا ينضب، كيف لا، وهو الشاعر القَلِقْ، الذي ينتصبُ أمامه على الدوام بيت المتنّبي الأشهر:

على قلقٍ كأن الريح تحتي أحركّها جنوباً وشمالاً..

 وربما اتصل ذلك بما قاله له والده ذات يوم: (سوف تقضي حياتك غريباً عن وطنك)!

محمد الفيتوري الذي أنجز العديد من المجموعات شعرية متصلة ومنفصلة في أزمنتها وأمكنتها، وقف جلّها على قضايا الإنسان العربي المعاصر وإشكالياته، رأى أن الشاعر يستمر شاعراً مادام على قيد الحياة، وهو وإن توقف عن الكتابة بعض الشيء، فلأنه أراد ألا يكّرر كلماته وقاموسه، أراد نفساً جديداً، بحثاً عن أداة تعبيرية جديدة، وبتعبيره: لفظة جديدة، حية تتحرك تمتصّ وتهدئ الشحنة الفكرية والنفسية.

مثل عصفور غريب، يتنقّل من غصن إلى غصن ومن مسافة إلى مسافة، تنقّل الفيتوري بين الخرطوم والقاهرة وبيروت، ليبقى فوق الأغصان لساعات، لأيام، لشهور ثم يطير، كان الشاعر هو العصفور غير المستقر ليغرّد على ربوتين، أو داخل قفصين!

فصاحب (ابتسمي حتى تمرّ الخيل) و(شرق الشمس غرب القمر) وغيرها الكثير، لم يتخفّف من صوغ رؤية للفقر والغنى والمسافات التي تفصل بين الناس، تكاد تفارق السائد النقدي ومواضعاته المختلفة، فحينما انقسم الخطاب النقدي في تصنيف (الروّاد)، أو التوقف بالذائقة عند أجيالٍ بعينها، لا سيما حينما كتبت الشاعرة نازك الملائكة قصيدتها (الكوليرا) بوصفها فاصلاً بين مرحلتين: عصر القصيدة الكلاسيكية، وعصر القصيدة الحديثة، الأمر الذي حمل الفيتوري على أن يجهر برأيه: يجب ألا نمشي كالغوغاء في مظاهرات الرفض والقبول، دون أن يتخلّى عن دعوته إلى احترام تاريخ الشعر والثقافة العربية.

وكذلك رفضه لمصطلح الغابة والصحراء، وبرأيه أنهما يحيلان إلى مفهوم خاطئ، ليقول: (الصحراء والغابة لا توجد فقط في إفريقيا)، أما إفريقيته فلم تكن ضيقة، لقد رآها بإحساس عروبي يتجاوز مسألة اختلاط الأنساب والأعراق، لكن الفيتوري بدا مخالفاً لنزار قباني حينما كان قباني مستفّزاً من الثقافة السائدة بمصر آنذاك، فصرّح للصحافة بأنه لم تعد هناك ثقافة في مصر، والثقافة السائدة هي ثقافة أحمد عدوية، فكان ردّ الفيتوري: مصر ليست عدوية، وإذا كان الإعلام المصري تبنّى هذا النوع من المغنّين والمهرجيّن، فهذا ليس ذنب مصر، فضلاً عن رؤيته للشاعر أحمد عبد المعطي حجازي بأنه يصنّف كناقد، وكذلك للشاعر عبد الوهاب البياتي بأنه وقع تحت تأثير التقلّبات الفكرية والمزاجية، ليكتب كتابات تتراوح ما بين الإبداع والقحط، والدعاية الإعلامية والأصالة الشعرية! وما يحسب للشاعر الفيتوري، أنه سعى لينصف معاصريه، وألا يستسلم لأحكام المزاج الشخصي، لينادي بوجوب أن تبقى المساجلات مقدسة بالصمت حتى تجيء الأجيال المقبلة وتراها بعيون أكثر تحديقاً وأكثر إنصافاً. وعلى الأرجح أنه يمكن قراءة مساجلات ذلك الزمن بصفتها حراكاً لأبعادٍ أخرى، ليس أقلها تجليات الأنا الشاعرة في رؤيتها للآخر الشعري، وما يسفر عن ذلك من نتائج تستعيد حرارة تداول الأفكار وتركيب سيرورة ما يتداول آنذاك، وبمعنى آخر (سوسيولوجيا المنافسة داخل مجموعة الأدباء) والتي يصفها جاك لينهاردت (أستاذ السوسيولوجيا في الأدب الجديد في فرنسا وأمريكا)، (بالاستراتيجية التي يستخدمها هؤلاء الكتاب أو أولئك للوصول إلى الشهرة) متفقاً مع عالم الاجتماع بيير بورديو من أنها (استراتيجية الظهور) فحسب!.

محمد الفيتوري كتب ليطهّر ذاته، مثل بركان ينصهر داخل الأرض، ليمزج انفعالاته وخواطره في حلم شعري، في إيقاعاتٍ وصورة، ورؤيا، كتب لأنه أراد أن يقول كلمة للآخرين، للقادمين.

فصاحب (أغاني إفريقيا، عاشق من إفريقيا، اذكريني يا إفريقيا، أحزان إفريقيا) هو صاحب الإيحاءات والرموز والعالم الأسطوري المليء بالإضاءات والألوان الممتزجة سوداء وبيضاء، كان يردّد على الدوام: (اقرأوا دواويني لتروا كيف أراها، أنا لا أتحدث عن إفريقيا وافدة، أو عن عروبة وافدة، ولا عن دم مستورد أو عن علاقات جديدة، أنا تكلمت كما لم يتكلم أي شاعر عربي من قبل، أقولها وأنا مزهوّ بها)!

تلك نزهة عاجلة في ظلّ مضيء في غابة الشعر والشاعر وفي حيّز من أناه الشاعرة، علّ أفعال الحياة في مادوّنه الفيتوري تستعيد حضورها الآخر، خارج طقوس الموت والغياب، كي لا يكون مروره في الحياة عابراً، أو مجرّد مصادفة جميلة، بقدر ما ينطوي عليه من ضرورة تجعل من رحلته للذاكرة مستمرة بل تذكرة مفتوحة على بلاد وثقافات وآفاق لوطن مسكون باللغة والتاريخ..

عاش محمد الفيتوري مشدوداً بين الشعر والفعل، واللحظة والأبد، حياة مركبة يقطّرها بالشعر دهشةً.. دهشة.

العدد 1107 - 22/5/2024