تطبيق تعسفي لقرار لا راتب دون دوام

الأصل هو أن لا أجر دون عمل فعلي…

صحيح أننا لا نطبق المبدأ الاشتراكي القائل: (من كل حسب قدرته، ولكل حسب جهده)…

وصحيح أن أمور علاقة رب العمل الحكومي في دولتنا مع العمال والموظفين هي علاقة ملتبسة جداً، رغم وجود قوانين وتشريعات ناظمة، لأن هذه الأمور تساس في النهاية بمزاجية المدير والمسؤول، كل على هواه، دون أن تكون هناك مرجعية قضائية فعالة لصيانة حقوق الطرفين.

وصحيح أيضاً أن مستوى الوعي الحقيقي لواجبات العمل لدى كثرة كثيرة من عمالنا وموظفينا والالتزام الطوعي بما تتطلبه هذه الواجبات الوظيفية هما دون المستوى المطلوب كي تسير مكنة الإنتاج والعمل سيراً جيداً، وهو ما يتجلى في تقاعس كثيرين عن المجيء إلى دوامهم وأعمالهم بذريعة الوضع الأمني المتفجر، حتى لو كان ذلك في غير الأماكن التي يوجدون فيها، مما يتطلب محاسبة ومراقبة دقيقتين للجميع دون استثناء.

إلا أن كل ما قيل أعلاه شيء، والقرار الصادر عن رئيس مجلس الوزراء في 15 آب شيء آخر.

ففي إطار سعي السلطة التنفيذية الحالية للإيحاء بأن كل الأمور على ما يرام، وانطلاقاً من تصورات متسرعة بأن حبراً على ورق يمكن له أن يحل أزمة تعطل أعمال مؤسسات وشركات حكومية كثيرة، وهو التعطل الناشئ عن الأوضاع الأمنية غير المستقرة نتيجة الأزمة السياسية السورية، وانعدام الأمن في الأماكن الساخنة، وخصوصاً في المحافظات البعيدة عن المركز، فقد جاء القرار طالباً من الوزارات والمؤسسات أن تلزم عمالها وموظفيها بالدوام بدءاً من 1 أيلول، مهما كانت الظروف، تحت طائلة عد أيام الغياب إجازات دون أجر، واتخاذ إجراءات عقابية صارمة، قد يكون من بينها عدُّ الموظف المتغيب بحكم المستقيل، إذا اضطرته ظروفه للغياب خمسة عشر يوماً دون تبرير، أو دون قبول إدارته للتبريرات المقدمة.

إننا مع تأكيدنا أن التزام العامل والموظف بدوامهما، إضافة إلى أنه واجب أخلاقي بالدرجة الأولى، إلا أنه كذلك هو مسؤولية وطنية لا ينبغي التساهل فيها، لكن في ظل الأوضاع القائمة، هل يمكن تطبيق مثل هذا القرار تطبيقاً صحيحاً ليس فيه من الظلم شيء.

نعتقد جازمين أن الأمر لن يكون على هذا النحو، بل إن تطبيقه بحرفيته في كل الأمكنة، دون النظر إلى طبيعة الوضع الأمني في كل منطقة من مناطق العمل سيكون فيه الكثير من العسف والظلم بالنسبة إلى العاملين الشرفاء، فهم سيكونون أمام واحد من خيارين لا ثالث لهما: إما الذهاب إلى مكان العمل مهما كانت درجة خطورة الذهاب إليه، حتى لو كان في ذلك خطر الموت والخطف، من أجل راتب شهري يكاد لا يسد الرمق، أو عدم الذهاب مع المعرفة السابقة بأن الراتب لن يصله، أي في المحصلة الموت جوعاً هو وأسرته.

طبعاً قد يقول قائل: (هناك مخارج أخرى: تقارير طبية كاذبة، علاقات استثنائية بأولي الأمر تسمح للعامل والموظف بالانتقال إلى مكان عمل أكثر أمناً، نسج علاقات مع مراقبي الدوام تسمح بتغطية الغيابات بتسجيل حضور وهمي، وغير ذلك)، لكن مثل هذه المخارج لن تكون مقبولة من عامل يهتم بسمعته الوظيفية أكثر مما يهتم بقبض راتب قد يستحقه أو لا يستحقه.

ونضيف أكثر أن المخارج الأخيرة ليست في النتيجة إلا وسائل لفساد أخلاقي على المستوى الصغير، وقد يضطر إليها كثيرون ممن تدنت لديهم عتبة الرادع الأخلاقي خلال الأزمة الحالية. وقد تشجع عليها بعض الإدارات التي يخشى المسؤولون فيها تحمل مسؤولياتهم في الدفاع عن عامليهم أمام قرارات تعسفية، ونحن نربأ بالسلطة التنفيذية أن تشجع على مثل هذا النوع من الفساد.

تخلت مؤسسات الدولة في السنة الأخيرة عن أحد مكاسب العاملين، وهو مكسب نقل العمال من أماكن عملهم وإليها، وكانت الذريعة لذلك هي عمليات خطف الآليات الحكومية على الطرقات من العناصر المسلحة، وهي اليوم في طريقها لاستعمال حق مشروع في ظرف غير مناسب، وقد يترتب عليه تسريحات جماعية تعسفية في ظروف شديدة التعقيد.

ولذلك، فإننا نطالب مجلس الوزراء بإعادة النظر في هذا القرار، وتحديد ما هي أماكن العمل الآمنة فعلاً على النطاق السوري، التي ينبغي فيها على العمال والموظفين أن يلتحقوا بأعمالهم، وأماكن العمل غير الآمنة التي يشكل ذهاب العمال إليها خطراً على حياتهم، وتحديداً الأماكن الخارجة عن سيطرة الدولة والخاضعة لسيطرة العناصر المسلحة بمختلف انتماءاتها، وكذلك الطرق المؤدية إليها.

وفي هذا السياق نشير إلى أن بعض حقول النفط في محافظة دير الزور يسيطر عليها المسلحون، فكيف لوزارة النفط أن ترغم عامليها وموظفيها على الذهاب إلى هناك؟ وإذا كان لا بد فعلاً من ذهابهم، فليضرب الوزراء والمديرون مثلاً في الإقدام، وليذهبوا مع عامليهم إليها كنوع من التشجيع المعنوي، وللاطلاع فعلاً على واقع الأمور في المنشآت التي يديرونها ويشرفون عليها، إذ لن يكون المسؤول مسؤولاً حقيقة إذا بقي هو يرتع في مكاتبه المكيفة المحمية، وإذا بقي يدير أمور منشأته بالتحكم عن بعد.

وبعد كل ما سبق فإننا نرى أن السلطة التنفيذية ملزمة بإعادة النظر في قرارها المذكور، على ضوء اقتراحنا بتحديد طبيعة أماكن العمل إن كانت آمنة فعلاً أم غير ذلك، واتخاذ ما يلزم لإنصاف العاملين الذين أجبرتهم الأوضاع غير الطبيعية على الانقطاع عن دوامهم في أمكنة عملهم، مهما كان طول مدة الانقطاع.

العدد 1107 - 22/5/2024