الحزام التركماني في سورية.. مقامرة تركيا الأخطر

 أدى الصراع على موقع سورية الجيوسياسي إلى اختلال في التوازن الدولي، شكل فيه احتكار القرار السياسي الوطني حلقة مركزية وأساسية في مشروع استراتيجي أمريكي امتد منذ غزو العراق عام ،2003 وأيضاً حلقة مركزية في مشروع روسي مضاد ظهر بقوة بعد الأزمة الأوكرانية وفرْض العقوبات الغربية.

ومن السذاجة التصديق والأخذ بالخطاب الاعلامي للمعارضة الخارجية وخلفها خطاب داعمَيها الرئيسَين: تركيا والسعودية، القائل إن الحرب الدائرة هي حرب دائرة بين (ثوار) سورية التي يمثلها سياسياً (وفد الرياض) للمعارضة السورية، في مقابل الجيش السوري الذي يمثل الطرف الآخر. كما هو من السذاجة التصديق أن يكون الدعم الدولي لتفاوض السوريين في جنيف هو من أجل حماية الشعب السوري.

إن الطابع الدولي المتقاطع مع توترات إيديولوجية عميقة في الإقليم هو جوهر الصراع في سورية، وتلعب تركيا دوراً هاماً ومحورياً فيه. والسؤال الذي يُطرح: هل تخلّت تركيا عن هدفها في دور رئيسي في الساحة السورية؟. وهل يمكن لتركيا ان تنسحب من مشروع استراتيجي وضعت فيه كل خياراتها هكذا لمجرد تغير المسار العسكري في ريف حلب؟ …

إن التصريحات المتصاعدة والقصف المدفعي المتكرر لتركيا على الأراضي السورية، يوحي بأن حكومة العدالة والتنمية ماضية في سياساتها العدوانية في سورية. السيناريو الذي ستدعمه تركيا في الفترة المقبلة، بعد التراجع الحاد للميليشيات الإسلامية المسلحة هو إقامة (المنطقة الصديقة)، وهي نسخة معدلة عن (المنطقة العازلة) التي كانت تطالب بها في العامين الماضيين في الشمال السوري.

إن من يتابع الخطاب التركي والدعم العسكري والاجتماعي الكبير الذي تقدمه أنقرة لعسكرة المكون التركماني، يستنتج أن تركيا تسعى لاستخدامه في محرقة الصراع العسكري في سورية. وللإنصاف عندما كانت العلاقات السورية التركية جيدة لم تتحدث أنقرة إطلاقاً عن المكون التركماني في سورية بوصفه مكوناً مظلوماً، مع العلم أن هذا المكون عانى من السياسات الاقتصادية والتهميش والإهمال للحكومات السورية المتعاقبة، مثله مثل باقي المكونات السورية الأخرى.

حالياً وبعد تدهور العلاقة بين البلدين تحاول تركيا بشكل حثيث نشر المقاتلين من أصول تركمانية من بلدان عدة بما فيها سورية، على الحدود السورية التركية، خاصة في الريف الشمالي من حلب. وبدأ فعلاً الخطاب الإعلامي العربي المناهض للدولة السورية بتعويم فكرة حضور (المقاومة) التركمانية على شكل حزام في هذه المنطقة، التي بدأت مع تشكيل مجموعات مسلحة تحت اسم كتائب (السلطان مراد) وغيرها. طبعاً هذا في الظاهر والحقيقة بالتأكيد ليست كذلك، سيكون هناك عدد من المجموعات من أصول تركمانية في هذه الحزام، لكن الغالبية المتبقية ستكون مجموعات من عناصر أعيد تشكيلها من بقايا أو فلول الميليشيات الإسلامية بما فيها (جبهة النصرة) التي هُزمت في ارياف حلب واللاذقية.

كما أن هذا الحزام تحت مسميات (مجموعات تركمانية) سيستمر باستقبال المقاتلين الإسلاميين الأجانب من الخليج والمغرب العربي واماكن أخرى من العالم. يُقدم هذا الحزام لتركيا مكسبين استراتيجيين هامين؛ فهي تزيل عن عاتقها الاتهامات الدولية بشأن تهريب مقاتلي (تنظيم الدولة الاسلامية) عبر حدودها. كما تكسب تركيا من إقامة هذا الحزام عدم وصل جغرافيا شمال شرق سوريا الكردية بمنطقة عفرين في أقصى الشمال الغربي منها. وليس بعيداً عن هذا الموضوع يبدو (الحزام التركماني) مرتبطاً بما تسعى إليه السعودية منذ فترة لإنشاء (التحالف الإسلامي) الذي قد يكون له مستقبلاً دور ما لدعم هذا السيناريو. إذ يبين هذا الحزام انتهازية الخطاب التركي بالنسبة للفئات السورية التي يدعمها، فهو في الوقت الذي يطالب بحرية الشعب السوري، يقوم بإدخالها في أتون الصراعات العسكرية.

وفي الوقت الذي يطالب بحق التركمان السوريين بالاستقلال؟ يرفضه بشكل مطلق بالنسبة للأكراد السوريين. كما أنه في آن معاً يستخدم الإيديولوجيا القومية في تبريره تسليح المكون التركماني وحمايته، ويستخدم الخطاب نفسه في محاربة الاكراد. وفي الوقت الذي يستخدم فيه الإيديولوجيا الدينية في تبرير دعمه معظم الميليشيات الاسلامية المسلحة من أجل (استقلال) سورية، على حد تعبيره، يستخدم الخطاب نفسه لطوءفة النظام السوري والدعوة لإسقاطه على هذا الأساس. هذا الخطاب المنمق والمخادع الذي يتحدث به الساسة الأتراك عن الحرية والحقوق لكل فئات الشعب السوري للأسف ليس إلا كذباً صريحاً، لن يمر بهذه البساطة. إن استخدام تركيا لورقة الشعوب التركمانية، بدءاً من القوقاز مروراً بالعراق وسورية إلى الإيغور في الصين، هي مقامرة خطرة لن تؤدي إلا إلى المزيد من الصراعات والدمار الاقتصادي والتفكك الاجتماعي والمآسي لهذه الشعوب العريقة.

العدد 1105 - 01/5/2024