السرطان السلفي المتفشي في الجسد السوري (1من2)

لقد أثمر العاملان الذاتي – التراثي، والموضوعي – التنسيق بين مكونات (الحلف المقدس) مع جماعة الإخوان المسلمين في سورية- نتائج كارثية هائلة طالت مصير البلاد بالكامل، من خلال عمل الجماعة على منع تحديث المجتمع السوري والحيلولة دون علمنته وتطويره بكل الوسائل السياسية والدعائية والعاطفية والمسلحة،فالصراع بين الجماعة ومختلف الأطياف السياسية العلمانية في سورية هو في جوهره صراع بين حركية المجتمع ونزوعه التقدمي إلى التحديث، والعمل العنفي على شلّ هذه الحركية ووقف هذا النزوع، بل شدّ المجتمع ودفعه وإرجاعه إلى الوراء خلافاً لمنطق التطور التاريخي الطبيعي للمجتمعات. ويعترف الإخوان المسلمين بهذه الطبيعة الجوهرية للصراع، ولا يخفون في وثائقهم أن صراعهم مع النظام البعثي هو جزء من الخلاف الفكري بين الإسلام والعلمانية (راجع ويكيبيديا الإخوان المسلمين/ مقالة جمعة أمين، الإخوان المسلمون في سورية).لذلك فإن مجمل مآخذ الجماعة على الاستبداد والفساد والممارسات الطائفية وغيرها ليست سوى مبررات دعائية لكسب المناصرين لها، فالجماعة كانت قد قررت المواجهة أصلاً منذ لحظة استلام البعث السلطة في سورية (8 آذار1963)وقبل ظهور أي فساد أو غيره، إذ اعتبرت هذا التاريخ نقطة انعطاف خطيرة في تاريخ سورية.

إن القاعدة النظرية التي تنطلق منها جماعة الإخوان المسلمين تحتّم عليها مواجهة مكونات المجتمع السوري المذهبية والطائفية والعرقية كافة، والقوى السياسية كلها، سواء كانت بعثية أو ناصرية أو شيوعية أو قومية سورية أو ليبرالية، فهي تحتكر لذاتها المسؤولية عن المجتمع السوري بتنوّعه، وترى أن إخضاعه للعقيدة الإسلامية واجب شرعي لا يمكن التخلي عنه، وذلك منذ نشأتها الأولى الأمر الذي يجعل منها صاعق تفجير دائماً داخل المجتمع، فكيف إذا تكللت هذه المهمة النابعة من ذاتها وثقافتها وتراثها بتكليف دفع ثمنه (الحلف المقدّس) سلفاً؟ ففي استعراض لنشأة الجماعة وتتبّع تاريخ تطورها نجد كل ما يؤكد ذلك حتى في وثائق تعود للجماعة نفسها، وحتى في محاولتها قلب الحقائق.

ففي مقال (جمعة أمين) المشار إليه عن الإخوان المسلمين في سورية ورد أن (سورية من أوائل الدول التي نبتت فيها دعوة الإخوان خارج مصر)، والحقيقة أن نشوء الدعوة رافق بدايات خروج المجتمع السوري من قوقعته التراثية الضاغطة، في وقت كانت حركية القوى السياسية في أوجها، فالدعوة لم تنبت عفوياً، كما توحي عبارة (جمعة أمين) بل زُجّت زجّاً في قلب تلك الحركية بقرار (حسن البنا) في إطار توسيع رقعة سيطرة الدعوة خارج مصر، فكان أول ضحاياه طالبان سوريان يدرسان الشريعة في مصر، هما مصطفى السباعي ومحمد الحامد وكذلك (العالم) السوري محمد سعيد العرفي، وهؤلاء هم اللذين حملوا الدعوة وعادوا لغرسها في الجسد السوري بكل الوسائل، فتشكلت الخلايا الأولى من بضعة رجال في كل من دمشق وحلب وحماة عام ،1937 في الوقت الذي كان الشيوعيون السوريون حزباُ منظماً يمثّل أطياف المكون السوري كافة، ويقدم الشهداء من أجل كرامة الوطن وحريته أرضاً وشعباً، في معركة الاستقلال ضد المستعمر الفرنسي.

كان أول ظهور لجماعة الإخوان المسلمين عام 1939 في هذه المعركة أيضاً ولكن ليس من أجل الأهداف ذاتها ولا للأسباب نفسها، إنما لأن السلطات الفرنسية كانت قد فرضت على المحاكم السورية تشريعات تبيح للمسلم الكفر بغير قيد ولا شرط، فاعتبرت الجماعة ذلك ترويجاً للفوضى والإلحاد في بلاد لم تعرف لها ديناً غير الإسلام- حسب تعبير الجماعة- فتصدت الطلائع الأولى للإخوان لهذه الإجراءات عن طريق إضراب لم يتجاوب معه الكثير من الناس، فراح عناصر الإخوان يرغمونهم على التجاوب. إذاً، الجماعة لم تقاتل من أجل كرامة الوطن وحريته، بل من أجل وضع حجر عثرة أمام انفتاح الوعي والثقافة وحرية الرأي والحرية الشخصية خوفاً من أن تتراجع سلطة (العلماء) ورجال الدين على هذا الوعي. لقد كانت الجماعة تقاتل من أجل أن تُحلّ محلّ السلطة الفرنسية سلطتها هي على أرض وشعب تعتبرهما ملكية شرعية خاصة بها، وسنرى من هذا التاريخ فصاعداً حجر العثرة هذا موجوداً كالقدر الأزلي في وجه أدنى محاولة لفك الطوق عن وعي الجماهير.

عام 1946 نشطت الجماعة إعلامياً عبر توزيع الكتب والمناشير والخطب وجريدة (المنار) التي كانت منبراً لما سمّته الجماعة (كسر موجات التغريب والإلحاد والانحلال والأفكار المنحرفة)، وتوسع انتشارها وتأثيرها على الرأي العام، وكانت تدسّ عناصرها معلمين في المدارس، كما تدسّهم في نشاطات مدنية متنوعة.

عام 1947 وصل عدد من أعضاء الجماعة إلى البرلمان السوري، وهم الشيخ معروف الدواليبي ومحمود الشقفة ومحمد المبارك، وكانت مهمة هؤلاء في البرلمان (رفض تأجيج الصراع الطبقي) والتهيئة لالتحاق الناس بالمدارس الليلية الخاصة بالإخوان المسلمين. ويذكر أن موقف الجماعة من الصراع الطبقي يفسّره الدكتور سمير أمين على النحو التالي: الإسلام السياسي ليس ضد الإمبريالية حتى لو ظن مناضلوه عكس ذلك، فهو رجعيّ بأساسه ولا يستطيع المساهمة في التقدم في تحرير الشعب، وهو يحذف من مجالات الحياة المواجهات الاجتماعية الواقعية بين الطبقات الشعبية والنظام الرأسمالي الذي يضطهدهم ويستغلهم. ويؤكد قادته باستمرار أن مثل تلك الصراعات لا أهمية لها. ويضيف الدكتور سمير أمين أن الإسلام السياسي يدافع عن مبدأ (الطبيعة المقدسة للملكية ويجيز عدم المساواة) ويؤكد أن هاتين هما(المعركتين الإيديولوجيتين اللتين يصعّدهما على الترتيب اليمين العنصري في الغرب والإسلام السياسي اللذين يدعم كلّ منهما الآخر، في الوقت الذي يدعمان فيه الممارسات الطائفية). ولاكتمال الصورة ووضوحها لا بد من التذكير أيضاً أن جوهر التحالف بين الشيوعيين والبعثيين كان تلازم الصراع الطبقي والصراع الوطني، إذ لا صراع وطنياً من دون الصراع الطبقي، وعندما تُسقط جماعة الاخوان المسلمين أحد طرفي هذه الجدلية فهي تنسف الجدلية برمتها، وهو ما يؤكد مسألتين:

الأولى- الدور الكبير الذي تؤديه الجماعة للحلف المقدس كأداة تدمير ذاتي داخل مجتمعنا.

الثانية- لعبة التحويل، فليس الصراع الطبقي بطابعه التحرري هو مصدر المواجهات الاجتماعية إنما مصدر هذه المواجهات هو وجود الجماعة ذاته وأهدافها وتأثيرها العاطفي في مجتمع متميز بتراث تاريخي غيبي عميق ونسبة عالية من الأمية.

العدد 1105 - 01/5/2024