التربية صمّام أمان المجتمع

 الإنسان، أيّاً كان مستواه العلمي أو الطبقي، يميل إلى تحسين وضعه، وأقصد هنا (الانتقال إلى مكانة جديدة يعتقد أنها الأفضل وتحقق له  أكبر قدر من السعادة التي ينشدها)، فمجموعة الأفراد المكونة لهذا المجتمع تتفق على هذا الرأي وهو الوصول إلى مجتمع أكثر سعادة، وتختلف الآراء وتتفق أحياناً حول ماهية هذا النموذج الاجتماعي وطرق الوصول إليه، باختلاف الخلفيات الاجتماعية والطبقية والعلمية والمعتقدات، وباعتبار أن الوصول إلى هذا المجتمع هو حلم إنساني كبير راود المفكرين والفلاسفة والمبدعين وحتى بسطاء الناس. فمن المتفق عليه أن كل قفزة حضارية تبدأ بحلم تصاحبه معطيات لازمة وإرادة قوية وإصرار من قبل المجتمع من أجل تحقيق هذا الحلم.

وهنا أرى أن أفضل طريق للوصول إلى هذا المجتمع تتبع المخطط العقلي الآتي:

استقلال المشروع التربوي يؤدي بالضرورة إلى استقلال تعليمي، وهذا يفضي إلى استقلال علمي، مما ينتج عنه فائض في القوة والاقتصاد، فيعطي للقرار الحكومي قوة وللقرار السياسي استقلالية، فيكون المنتج النهائي مجتمعاً سيّداً واعياً قوياً وسعيداً.

أولاً- استقلال المشروع التربوي: إن الخطوة الأولى في البحث عن مشروع تربوي مستقل هي تشخيص الواقع التربوي والتعليمي، ومقارنته مع الوضع الذي نطمح أن يكون عليه هذا الواقع بحيث يؤدي بشكل علمي منطقي وضروري إلى الخطوات اللاحقة، وكلمة استقلال هنا لا تعني أننا نريد أن نجلس في مكان مغلق معزول عن المحيط العالمي الذي نعيش فيه، بل أن يكون لنا شخصية فريدة مميزة مؤثرة مستفيدة من كل إنجازات الإنسانية التي تتفق مع طموحاتنا القيمية والإنسانية المجتمعية، فلا نكون نسخة مطابقة أو مشوهة عن أي مجتمع آخر، فلنا خصوصياتنا الجغرافية والتاريخية والقيمية والاقتصادية والسياسية وإرث هائل من الحضارة والإنجازات يمكن أن نبني عليها، للوصول إلى إنسان يتمتع بقدرته على البناء والإبداع، وبقدرٍ كافٍ من المرونة والتكيف مع الواقع والتعامل معه ومع مستجدات الحضارة والذكاء النشط، وله بصمته في كل مجالات النشاط الإنساني، لا وحدات بيولوجية جل غايتها التكاثر والنمو، فيكون الهدف النهائي مخرجات إنسانية واعية تتمتع بروح الريادة والإبداع، لا جيشاً من الموظفين الذين يشكلون عبئاً إضافياً على المجتمع.

ثانياً- الاستقلال التعليمي: إن ميدان التربية يشمل جميع الأشكال والأنماط والآليات لتفكير أفراد المجتمع، وتنمية قدراته الفكرية والبدنية وحدسه الأخلاقي، علاوةً على تلقينه المعارف وتدريسه آداب العيش وفن الحياة وتعليمه أعراف المجتمع الذي ينمو فيه وتقاليده، مؤثراً فيه بشكل مباشر وسريع، إذ إن تأثيره يكون على شريحة واسعة جداً من الأفراد تعادل على الأقل ثلث أفراد المجتمع وكل الأطفال والشباب، وهذا التأثير ينتقل وبشكل عرضي إلى كل أفراد المجتمع مما يظهر واضحاً على المجتمع المستهدف. وبما أن المعلم هو القائد والموجه والقائم على تنفيذ هذه المهام، فهو الأساس في هذا العمل الضخم، مما يستلزم وجود معلم يتمتع بشخصية مميزة قيادية ذات مكانة اجتماعية وعلمية خاصة تتناسب وهذا الحلم المطروح، فالمعلم هو صلة الوصل بين المبادئ العلمية ومواضيع التربية وكيفية إيصال المعارف. إنه حقا فاعل ومتدخل رئيسي، ولهذا فإن حضوره لا غنى عنه وملزم في جميع المراحل المؤدية إلى تحقيق هذا المشروع من بدايته حتى نهايته. ولا بد من التنبيه هنا إلى أن دور المعلم داخل غرفة الصف بالرغم من أهميته لا يلغي أهمية الكادر التربوي برمته في جميع مفاصل المؤسسات التربوية وإدارتها. فالكل متكامل وكل بحسب دوره، وهذا يؤدي إلى:

1– منهاج مستقل يستفيد من كل التجارب التي نعتقد أنها رائدة في هذا المجال متجاوزاً إياها لما ينسجم ويقدم للخطوة التي تليها، وهي الاستقلال العلمي وبناء شخصية إنسان فريد نطمح إليه.

2– تكريس منظومة قيم اجتماعية نعتقد أن فيها الخير للفرد والمجتمع.

3– تطوير وابتكار أساليب ومسائل تعليمية تؤدي إلى مستوى علمي مميز ومتقدم.

4– مستوى ثقافي وفني نظن أنه ضروري لإشباع الفكر والحفاظ على السمات الخاصة بالمجتمع.

5– مستوى صحي وبدني يتمتع بانسجام حسي حركي قادر على الإبداع في مجالات الرياضة والفنون، مما يؤدي إلى تكوين بصمة خاصة إبداعية في المجالات التنافسية العالمية.

وهذا يستلزم بالضرورة تكوين أسرة تربوية تشرف على المؤسسات التربوية والتعليمية وقادرة على تنفيذ المنهاج، ذلك أن المنهاج هو كل نشاط يمارسه التلميذ داخل المؤسسة التربوية أو خارجها بإشراف تلك المؤسسة، لا تنفيذ الكتاب المدرسي المقرر فقط. ويستلزم أيضاً الابتعاد عن التعليم الصم وحشو عقل التلميذ بمعلومات منوعة يعجز عن تمثل أيٍّ منها، أي أننا نريد جيلاً قادراً على التصدي لمشكلات العصر بكل أنواعها وابتكار حلول ملائمة وإبداعية، فيغدو شغله الشاغل ابتكار التكنولوجيا وليس استثمارها أو جمع معلومات عنها فقط، وتحقيق قفزات نوعية إبداعية لتطوير المجتمع وخدمة الإنسانية جمعاء، وتمثل منظومة القيم الاجتماعية وترقيتها إلى أعلى مستوى يخدم الإنسان. وبالنتيجة الوصول إلى معلم قائد يتقن فن التعامل مع الطبيعة البشرية وتوجيهها للسير في المضمار الذي نعتقد أن فيه الخير للفرد والمجتمع.

ثالثاً الاستقلال العلمي: إن وجود مشروع تربوي مستقل ونظام تعليمي مستقل سوف ينتج بالضرورة اسلوب تفكير مستقلاً وجديداً وآليات تفكير متطورة، أي أفراداً مميزين مبدعين قادرين على إبداع النظريات العلمية والاجتماعية والثقافية في كل مناحي الحياة مما ينعكس إيجاباً على كل مجالات النشاط الإنساني والتطور العلمي والثقافي من صناعة وزراعة وتجارة… والريادة في مجالات التنافس العالمي، وابتكار حلول جديدة لمشكلات المجتمع السابقة والطارئة مما يؤدي إلى صناعة وتجارة وزراعة متطورة وأفراد قادرين على استثمار مبتكرات العلوم والتكنولوجيا وتقديم المجتمع ككل كقوة اقتصادية مؤثرة في منظومة الاقتصاد العالمي، له بصمته الخاصة والمميزة، المعروف من خلالها عالمياً. وهذا الفائض في العلوم كافة سيرافقه بالضرورة تطور في المجال العسكري وإبراز الروح الوطنية واعتزاز الأفراد بالانتماء إلى هذا المجتمع، إذ إن القوة العسكرية ستغدو ضرورة ملحة لحماية هذا التطور الذي سيدخل في مجالات المنافسة مع قوى اقتصادية وتجارية وصناعية تملك قدرات عسكرية هائلة، فلا بد من الوقوف بوجه هذه القوى التي لن تلتزم بالمنافسة الشريفة، فامتلاك القوة العسكرية يكون لحماية المجتمع وصون الكرامة وليس للاعتداء على الآخرين، فالمجتمع الواعي الذي يتمثل منظومة القيم الأخلاقية يمتلك القوة لحفظ السلم وصونه، لا لإشعال الحروب لأن الغاية النهائية هي سعادة البشرية وليس تدميرها.

رابعاً قوة القرار الحكومي واستقلال القرار السياسي: تأتي قوة قرارات الحكومة واحترامها من قبل الفئات المستهدفة بتلك القرارات من قدرة الحكومة على تنفيذها ومدى اعتقاد تلك الفئات بأنها تخدم مصالحها الآنية والمستقبلية وتضع حلولًا لمشاكلها الحالية والمستجدة وتحقيق العدالة الاجتماعية لكل أفراد المجتمع، يضاف إلى ذلك صون الكرامة وحرية التعبير والرأي والمعتقد وتحقيق حد معين من تلبية الحاجات المادية الأساسية والترفيهية، وهذا يستلزم وعي المواطن لتلك القرارات ومقداراً جيداً من الفائض الاقتصادي بحيث تستطيع الحكومة تلبية تلك الحاجات، إذ إن الفائض الاقتصادي يجعل الحكومة ومؤسساتها قادرة على رسم الخطط وتنفيذها بمستوى عال من الجودة والكفاءة. وفائض القوة يؤدي إلى منظومة أمنية قادرة على نشر الأمن وتنفيذ الأحكام القضائية وتطبيق القوانين والتصدي للمفسدين، إذ إن المستوى العالي للتربية والتعليم سيقف بوجه ثقافة الفساد وينشر بدلاً منها ثقافة الانتماء والمواطنة وفكر العدالة الاجتماعية، فلا يبقى سوى أشخاص مفسدين يتكفل القضاء والقوة الأمنية بالتعامل معهم، فيشعر المواطن بالرضا من أداء الحكومة، مما يخفف من الاحتقان والإحساس بالغبن، وبهذا تتمكن الحكومة من إبداء المواقف التي تراها مفيدة لمواطنيها والإنسانية دون الخوف من الدول الأخرى بسبب انتفاء الحاجة الاقتصادية والتهديدات العسكرية، إذ إن اقتصاداً متطوراً وجيشاً قوياً يجعل الحكومة قادرة على اتخاذ مواقف جريئة ومتميزة ومستقلة ومؤثرة في المحيط الإقليمي والعالمي من كل القضايا الوطنية أو العالمية.

خامساً مجتمع واعٍ وسعيد: إن المجتمع الذي يمتلك قدراً عالياً من الوعي والازدهار الاقتصادي، والحكومة التي ترعى مصالحه وتحمي مستقبله ومستقبل أبنائه وتدافع عنه ضد أي عدوان خارجي أو ظلم داخلي، ويمتلك مساحة واسعة من حرية التفكير وابداء الرأي، يشعر بشكل طبيعي بالعزة والكرامة والرضا، فيلتف حول قيادته السياسية ويدافع عنها دون إكراه، إذ إنه يشعر أنه جزء منها وأي تهديد لها يهدد كيانه ويفقده مكتسباته، فتتعزز عنده قيم المواطنة والانتماء والتقيد بالنظام، فيصبح الالتزام طوعياً، إذ يغدو محصناً ضد ثقافة الفساد والاختراق الأمني والثقافي، وتزداد وتيرة الإنتاج والإبداعات الفكرية والفنية ويرتفع منسوب العزة الوطنية والشعور بالكرامة، وكل هذا يؤدي إلى السعادة، إذ إن أهم القواسم المشتركة للسعادة هي المستوى الاقتصادي والرضا عن الذات والشعور بالتميز وإتقان العمل والعيش بأمان وانتفاء الخوف من التهديدات المستقبلية بكل أنواعها.

العدد 1105 - 01/5/2024