أبعاد الرياضة التاريخية والإنسانية والاجتماعية ــ الاقتصادية

 علينا إعادة قراءة التاريخ، وذلك لشرح المكانة المهمة التي حصلت عليها الرياضة في المجتمع المعاصر، كما أنه يجب إلقاء الضوء على أبعادها الاجتماعية، واستخراج الأفكار الأنثروبولوجية العميقة التي تحيط بها.

دون شك، إن الرياضة تجمع الناس في تعاطف مشترك، فالتنافس هو أولاً وقبل كل شيء، إحساس وضغط يتزايد حتى النهاية، فهو امتحان من أجل بلوغ الإنجاز، لكن هذا الشعور المشترك لا يكفي وحده لتفسير النجاح الكبير الذي تلاقيه الرياضة في مجتمعاتنا، وبالتالي يجب البحث عن أسباب أخرى.

ولفهم المكانة التي صارت تتبوؤها الرياضة في مجتمعاتنا، يجب علينا دراسة أبعادها الاجتماعية والاقتصادية والنفسية والتاريخية، وعلى الخصوص بعدها الأنثروبولوجي الذي يعود بنا إلى جذورها. ولكن حتى الأمس القريب لم تستطع الرياضة إثارة اهتمام الاختصاصيين في العلوم الإنسانية لدراستها، وبقيت الرياضة ميدان بحث هامشي، وربما يعود قلة الاهتمام هذا لطابعها اللهوي الترفيهي. والرياضة بتعدد أشكالها، تدخل في نطاق الألعاب التي كان ينظر إليها كنشاط قليل النفعية بالنسبة للمجتمع، وبالتالي غير جدير بالاهتمام، وافترض الباحثون أنه من الأجدى دراسة نظم العمل، لأنها تحمل قيمة مجتمعية أساسية، وهكذا اتجه علماء النفس وعلماء الاجتماع وغيرهم من اختصاصيي العلوم الإنسانية نحو دراسة نظم العمل وأهملوا الرياضة، لكن ولحسن الحظ فإن بعض الفلاسفة اخترقوا هذه الأحكام المسبقة واتجهوا إلى دراسة الألعاب، وبالتالي تمكنوا من إنشاء أدوات بحثية وتحليلية لفهم الرياضة، لأن طابعها اللهوي يكشف عن جزء أساسي من ماهيتها.

لقد بين هؤلاء الفلاسفة التأثير الكبير للتنافس، في عملية الحضارة، وصُنّفت الألعاب في أربعة أقسام: التنافس، والحظ، والتمثيل، والدوار.

ويضم التنافس ألعاب الصراع، التي يتصارع فيها الخصوم مع تساوي الحظوظ، لكي يحصل الفائز على نصر بيّن وتقدير وتشريف، والتنافس الذي يبرز الاستحقاقية يحتاج إلى صبر وتدريب وصرامة، وتدخل الرياضة في صلب هذا القسم.

وفي ألعاب الحظ الذي يعتبر النرد مثالاً حياً عليها، فإن القدر وحده هو الحكَم، على عكس ألعاب الاستحقاق التي تكون فيها إرادة المشارك أساسية للفوز. يجمع التمثيل ألعاب التظاهر، والتي يتقمص فيها المشارك دور شخص آخر، وفي هذا النوع فإن القناع يلعب دوراً جوهرياً. أما ألعاب الدوار فإن اللاعب يبحث فيها عن الدوار وفقدان الإحساس بالعالم الحقيقي.

تعتبر الرياضة ذات طابع تنافسي، لكنها تشترك مع الأقسام الأخرى من الألعاب، مع الحظ، ومع الألعاب التي تسبب إحساساً بالدوار.

ويعود أصل التنافس حقيقة إلى غابر الأزمان، فقد بدأ دون شك مع ظهور الإنسان نفسه كمحاولة لتجاوز حدود الأوضاع البشرية، أي تجاوز الإمكانات والذهاب نحو أبعد من حدود المقدرة، وعندما انفصل الإنسان عن الطابع الحيواني، أصبح يدرك إمكانية الاختيار، وبالتالي أحس بالحاجة إلى وضع قوانين، وتعلم القواعد المنظمة التي هي دون أدنى شك، أحد أهم الأدوار التي تقوم بها الرياضة، فليست هناك قواعد للرياضة دون وجود قواعد للعب يجب احترامها.

لاشك في أن الرياضة تعد رمزاً وتمثل القواعد الأساسية لمجتمع ما، ففي القبيلة القديمة كانت القيمة العضلية أساسية، ذلك أنها أساس الأمن والبقاء على قيد الحياة، وبهذا أضحت العضلات قيماً مجتمعية مقدسة، ولقد شكلت الألعاب الجنائزية التي جرى وضعها بدقة في بلاد الإغريق القديمة أول المنافسات عالمياً، وقد جاءت طقوسها القديمة من بلدان أخرى، لكنها فرضت في اليونان طابعها الديني، وظهرت بعد ذلك الاحتفالات الدورية التي كانت تقام قرب برزخ كورنث في اليونان وغيرها، وكلها ألعاب مخصصة للآلهة، وكانت الألعاب الأولمبية أشهرها التي تقام على شرف زيوس، على جبل الأولمب، بصفة دورية مرة كل أربع سنوات.

ومما يشهد على الأهمية الدلالية الكبيرة للألعاب الأولمبية عند الإغريق القدامى، أن التقويم الإغريقي يبدأ بها سنة 776 قبل الميلاد، وهكذا أصبحت الألعاب والمسابقات إحدى ركائز الحضارة الإغريقية.

إن تهاوي الحضارة اليونانية أدى إلى اضمحلال الألعاب، على الرغم من أن الإمبراطورية الرومانية احتضنتها، ثم تركتها تتطور نحو ألعاب السيرك تحت تأثير الأورتيسكي والقرطاجي، ولم تعد المنافسة تمثل سوى الاستعراض الشكلي، وقد مُنعت الألعاب عند اعتناق الإمبراطور الروماني تيودور الأول المسيحية عام ،394 وذلك لأنها أصبحت حسب اعتقاده تمثل احتفالات وثنية، أما في العصور الوسطى وعصر النهضة، فقد جرى تعويض الألعاب القديمة بألعاب تمرينية عدة. وقد فرضت الهجمات والحروب البربرية الاعتناء باللياقة البدنية، ثم فرض انعدام الأمن على الفرد امتلاك قوة لمواجهة الهجمات المحتملة.

أما الحقبة الحديثة للرياضة، فقد بدأت مع الثورة الصناعية، وقد ولدت الرياضة في إنكلترا، لأن الصناعة بدأت في هذا البلد، ثم انتقلت نحو باقي القارة الأوربية ثم بقية العالم، وقد تمكن البارون بيير دو كوبرتان من إعادة الحياة إلى الألعاب الأولمبية القديمة، فأقيمت الألعاب الأولى في أثينا عام ،1896 وهكذا بدأت حقبة جديدة، يمكن تقسيم تطور الرياضة خلالها إلى ثلاث فترات كبيرة، أولى هذه الفترات بدأت في مطلع القرن التاسع عشر، وقد قوي فيه دور الرياضة مع تكوّن النوادي الرياضية، ثم الاتحادات الوطنية والدولية، وهكذا تحسّن الجانب التنظيمي والمؤسساتي.

أما بعد الحرب العالمية الثانية، فيمكن القول إن مرحلة ثانية من تطور الرياضة قد بدأت، لقد استغلت بلدان الشرق الأوربي الاشتراكي الرياضة، للبرهنة على تفوق نظامها المجتعمي، وقد حاولت البلدان الغربية مواجهة التحدي، وهكذا أصبحت رياضة المستوى العالي رهاناً مهماً.

تأثرت المنظومة الرياضية بهذا الصراع الذي تتواجه فيه النخب الرياضية للبلدان الاشتراكية والغربية، وانقسمت الرياضية إلى وحدات عدة: رياضة النخبة، ورياضة العامة، ثم رياضة التسلية.

ومع سقوط جدار برلين، بدأت المرحلة الرياضية الثالثة، وفيها تحول المحرك السياسي للرياضة عبر صراع غرب – شرق، إلى محرك اقتصادي، فالتنافس الرياضي الذي يضم مخزوناً هائلاً من المشاهد الدرامية، والسيناريوهات المشوقة، أضحى بالتالي يمثل استعراضاً أساسياً بالنسبة للقنوات التلفزيونية، فالجمهور يطالب بالمزيد، والشركات الكبرى أصبحت تستعمل الرياضة أداة للتسويق، ونشاهد في وقنا الحالي سباقاً محموماً لاحتكار صورة البطل، فالشركات تحاول أن تشرك صورتها مع صورة بطل رياضي مشهور لاستغلال شهرته وشعبيته، والدعاية التي تحصل إذا حقق هذا البطل إنجازاً مهماً، هي حتماً أرخص تكلفة، وأكثر فاعلية من الدعاية العادية، وهكذا تحول الأمر في الملاعب كما في خارجها من صراع بين الأمم إلى صراع بين الشركات.

لقد جاء هذا العصر الجديد للرياضة بتغييرات جديدة للظاهرة الرياضية، فواجبات الاستعراض أضحت الأساس في تنظيم الرياضة وتقنيتها، والمحتضنون الذين يمولون البرامج التلفزيونية يطالبون بدعاية فاعلة في المقابل، والقنوات التلفزيونية التي تصرف مبالغ طائلة لمنظمي المنافسات الرياضية ذات المستوى العالي، تطالب في المقابل بقواعد ومواقيت مناسبة، وهكذا أضحت الرياضة تتغير لتتلاءم مع واجبات النقل التلفزيوني.

وهكذا شاهدنا في العصر الحديث تطور الأدوار الأساسية للرياضة، من دور تربوي إلى أداة سياسية قبل أن تتحول إلى آلة اقتصادية.

وفي الوقت نفسه، ومع تغيرات رياضة النخبة، عرفت الفترة الأخيرة ارتفاعاً كبيراً لممارسي الرياضة الترفيهية القريبة من تمارين المحافظة على اللياقة، وقد ساهمت عوامل عدة في تنامي هذا النوع من الرياضة، كتزايد وقت الفراغ، وتطور الرياضة النسوية… إلخ.

هذا التطور التاريخي للرياضة يبين تأقلم الظاهرة الرياضية مع كل عصر، لكنه يحافظ مع مرور الوقت على أساس جوهري: فالتنافس موجّه لتأكيد وحدة مجموعة، ولإعطاء العروض المقنعة، وللإعلان عن الأفضل عبر بذل الجهود والمواجهة، وهو يرمز أيضاً للتطور الإنساني، أليس مفهوم الرقم القياسي موجهاً لتجسيم التطور المستمر للقدرات البشرية؟

وربما كان ما يشير إليه البعض على أنه انحراف للرياضة ليس إلا إعلاناً مسبقاً ورمزياً لتغييرات سوف تعرفها الإنسانية، فربما كان استخدام المنشطات محاولة لاستكشاف سبل التطور التي تعرفها المنافسة.

العدد 1105 - 01/5/2024