قراءة ورؤية في مشروع المبادئ الأساسية لدستور سوري

 إننا نمر اليوم في مرحلة نعايش فيها الهدم المحلي والعالمي لإعادة بنائه وفق نماذج جديدة، يتراءى الواقع من خلاله حطاماً مفتوحاً قابلاً للاختراق، فكيف لنا بمواجهته في وطنٍ يراد له أن يُستباح فيه كل شيء؟ وأن يُجعل فيه كل قبيلة دولة، أخذاً بنصيحة المؤرخ البريطاني الشهير (لويس برنار) لدى استشارته من قبل الكونغرس الأمريكي، فيما يجب فعله حيال شرق الأوسط بُعيد انهيار الاتحاد السوفييتي وظهور أمريكا كقطب أوحد ومحولاتها فرض سيادتها على العالم.

ولمواجهة ذلك لابد من إنتاج فكرٍ وعلاقاتٍ جديدتين غير التي كانت سائدة لدى البعض من المفكرين والباحثين العرب، الذين عند بحثهم في المشكلات الداخلية لبلدانهم وأسبابها كان الفكر لديهم يقفز من فوره إلى مبرر يستسهله وهو مختزل في (العامل الخارجي ومتغيراته)- ويبتعدون عن البحث في العامل الداخلي الذي هو الأساس الذي يمكن له، إذا توفرت المقومات السليمة، أن يغلق الباب بوجه كل عامل خارجي ويخفف من تأثيره – حتى بات العامل الخارجي المولد الوحيد لوعي المفكر والباحث بمشكلات بلده المستجدة، فيأتي وعيه مفعولاً به لا فاعلاً ولا متفاعلاً، فتنبع الأسئلة المطروحة عليه من وعيه الذاتي للآخر، مما يشوب وعيه بالزيف عند طرحه الأسئلة، فتأتي الأجوبة مضللة، وهذا ما دفعه للنظر في المشكلات الناجمة مسلماً به في بنية الفكر السائد، فيندفع الساسة بدورهم لتجاهل ضرورة التغيير طبقاً لمعطيات الحقيقة واحتياجات الواقع، ويتنكرون لمفاهيم التحول والتقدم وينحازون للقياس والأصولية السياسية التي هي ادوات السلفية المقيتة التي تقيد الحركة التقدمية بقيود الماضي، ويغلفون الهوية والخصوصية بنفق مظلم لا يستشف منه المستقبل إلا بسوداويته هرباً من قبول الآخر، لأن هذا الاتجاه الفكري والسياسي يرى في نفسه وحده الحقيقة المطلقة، ويرى في التعددية وقبول الآخر شراً على خصوصيته وهويته ومهدّداً لكيان أمته.

بهذا المدخل سأتناول مناقشة المبدأين 1-2 من مشروع المبادئ الأساسية لمشروع دستور سوري، الذي طرحه للنقاش الحزب الشيوعي السوري الموحد، لأني عضو في اللجنة المركزية لهذا الحزب وواجبٌ عليَ، ومن حقي أيضاً، أن أقوّم سياسته وتوجّهاته بشكل بنّاء.

جاء في -1-: الجمهورية العربية السورية دولة ديمقراطية مدنية علمانية ذات سيادة تامة، غير قابلة للتجزئة، لا يجوز التنازل عن أي جزء من أراضيها، وهي جزء من الوطن العربي.

-2-:الشعب في سورية جزء من الأمة العربية..

فقد جاءا متناقضين أحدهما للآخر، أولاً، وثانياً جاءا معاً متناقضَين مع البند-8- في المشروع نفسه الذي ينص على: يقوم النظام السياسي للدولة على مبدأ التعددية.

وانطلاقاً من ذلك أطرح ما يلي:

أولاً- من أين تنبثق التعددية السياسية؟ أليست من التعددية الفكرية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية؟ ومن أين تنبثق التعددية الاجتماعية والثقافية؟ أليست من التعددية الإثنية القومية والدينية؟

ثانياً- المبدأ -1- يؤكد بداية على مدنية الدولة، أما في نهايته، وتكميلاً مع ما ورد في -2- فإنه ينحو بشكل واضح نحو الدولة القومية، وهذا تناقض فجّ وفقاً للقاعدة الديمقراطية، لأن الدولة المدنية الحديثة التي تعلن الديمقراطية شكلاً لنظامها السياسي وأساساً لها ليست بحاجة إلى قمع قومي وإنكار الآخر من أجل تحقيق كمالها السيادي والسياسي والوطني، لأنها تحقق في ذاتها أسس القومية والوطنية بطريقة ديمقراطية، فتجعل من تنوعها القومي والثقافي مداميك أساسية لبناء حياة اجتماعية ووطنية تنسج فيها الديمقراطية العلاقة المتينة بين السلطة السياسية والمجتمع القائم على التنوع والاختلاف، والذي هو الشكل الفعلي لتطبيق حق المواطنة القائم على الاختيار في الاتحاد مع الآخر والتعايش معه، مع ضمان حق التمايز الثقافي والسياسي.

ثالثاً- أما للذين يبطنون في القول ويظهرون ما بين السطور ممالأتهم لقومية بعينها وتجاهلهم للأخرى، فهذا محاباة للدولة القومية التي يراها مفقودة وهي بحاجة لإقامة أساسها الاجتماعي وإرادتها القومية وإكمال نفسها، ولتحقيق ذلك فهي تقوم بقمع شعوبها قمعاً قومياً، إضافة إلى قمعها الطبقي والاجتماعي الاقتصادي، وفيما بعد تجعل من الفكر القومي وسيلة مرائية لتحمي السلطات السياسية القائمة وتسكت بها شعبها وتحقق مصالحها الطبقية الضيقة بمنأى عن المصلحة الوطنية.

وبما أن الحزب الشيوعي السوري الموحد يسترشد بالمنهج الجدلي للماركسية اللينينية، لا بد من أن يستذكر أقوال قادة هذا المنهج الانساني المتجدد بطبيعته الجدلية القائمة على كشف التناقضات وحلها فيما بين الشعوب والقوميات وخاصة في المجتمع الواحد.

يقول ماركس: إن شعباً يضطهِد شعباً آخر لا يمكن أن يكون حراً، وإنما يصنع أصفاده بنفسه.

ويقول لينين: إن القومية المستعبِدة ليست أقل عبودية ولا أكثر حرية من القومية المستعبَدة.

في ضوء ما تقدم أرى أن المبدأ الاساسي والوحيد المقبول لأي حزب ماركسي لينيني وتحرري علماني ويمارس النضال الديمقراطي والطبقي والأممي إلى جانب نضاله الوطني والاجتماعي وحتى القومي إن أراد هو العمل على تكريس التعايش المشترك للشعوب والقوميات دون تمييز أو إنكار أو إقصاء للآخر، وللضرورة التاريخية يتطلب من الحزب إعادة النظر في الأسس التي بنيت عليها علاقاتنا ونظرتنا إلى تاريخنا وإرثنا إدراكاً منا أن تاريخنا الماضي كله مازال حياً ويلعب دوراً مؤثراً في حاضرنا وتحديد مستقبلنا المزهر الخالي من الصدامات العنيفة.

ونحن اليوم أكثر من أي وقت آخر مدعوون إلى الاعتراف المتبادل بالتعددية القومية والدينية والسياسية في سورية، والعرب النخبة لا غيرهم أول المدعوين للمبادرة والاعتراف بالتاريخ المشترك والحضارة المشتركة بين الشعوب التي تعيش في الوطن العربي والشرق الأوسط، لنغلق الباب أمام من يتلاعب بالألفاظ والحديث الزائف القائم على الترضيات المضمرة والمداهنات المعلنة تقرباً وتزلفاً من موائد السلطات.

فمع هذه الواقعية التاريخية يمكن أن نؤسس لقراءة نقدية ونوعية جديدة في تاريخ يشمل الاختلاف وتعدد الأعراق والشعوب والديانات، لما لهذا التعايش المشترك من جذور ممتدة في عمق التاريخ، وهو فعلٌ أخلاقي لم يأتِ من فراغ، وهو واقعي وليس شكلياً، إلا أن ما حال دون استمراره وظهوره في واقعنا الحديث هو الفعل الإقصائي والإنكاري للآخر، وقد آن الأوان أن نتراجع أمام المنطق الندي للمعرفة والتعارف، لأنه المدخل الوحيد لهذا الجزء من العالم- الملتهب بنيران الحروب وصراع النفوذ بين الغزاة على أراضيه ـ ولجعله خالياً من القسوة والكراهية، ولتعزيز قيم التعددية والتسامح لحياة مشتركة.

إن ما يمكن أن يحقق ذلك هو أن يأتي المبدآن 1- و 2- كالتالي:

1 – الدولة السورية دولة تعددية ديمقراطية مدنية علمانية اختارت مكوناتها القومية والدينية العيش المشترك، متساوين في الحقوق والواجبات، في وطن موحد غير قابل للتجزئة والتقسيم.

2- أراضي الدولة السورية جزء من جغرافية الوطن العربي يمكن أن تتوحد مع أي جزء منه إذا اختار الشعب ذلك، وكل مكون منه هو جزء من أمة ينتمي إليها ويعتز بها.

أخيراً، ما طرحته هنا قابل للنقد والنقاش أيضاً، علماً أنني سأنشره على وسائل التواصل الاجتماعي أيضاً.

العدد 1105 - 01/5/2024