ثورة أم انحطاط؟

أودّ في هذا المقال أن أعود إلى ماض قد يبدو بعيداً، قاصداً عصر الإمبراطورية الرومانية. وذلك لأن هناك توازياً بارزاً بين الأزمة التي تمخضت عن انهيار الإمبراطورية القديمة، وأزمتنا الراهنة. ففي الحالتين يعاني النظام من أزمة هيكلية مصدرها أن مركزة الفائض المستخرج من المنتجين قد غدت مفرطة، أي متقدمة على علاقات الإنتاج التي تكوّن قاعدة تشغيله. لذلك يصبح نموّ القوى الإنتاجية في تخوم المنظومة الكبرى مرهوناً بانفجار هذه الأخيرة واستبدالها بنظام لامركزي في جمع الفائض واستخدامه.

لم يقتض مستوى تطور القوي الإنتاجية المحققة في الدولة الرومانية مركزة تحصيل الفائض على صعيد المنظومة الإمبريالية؛ وبالتالي أجهض مشروع إنجازها، فأعقب هذه المحاولة الفاشلة انتقال قسري إلى التفتت الذي اتّسم به النظام الإقطاعي. أما النظام الإمبريالي المعاصر فهو نظام مركزة الفائض على الصعيد العالمي هذه المرة. وتفعل هذه المركزة فعلها على أساس القانون الرئيسي للنمط الرأسمالي وفي شروط هيمنته على التشكيلات الاجتماعية المنوّعة والخاصة بالمراكز وتخوم المنظومة. وقد اقترحت صيغة لقانون التراكم الرأسمالي على الصعيد العالمي بوصفه تعبيراً عن قانون القيمة الفاعل على هذا الصعيد. ويتّسم النظام الإمبريالي لمركزة فائض القيمة بتسهيل التراكم في مراكز النظام، في حين يعاني هذا التراكم في التخوم من العوائق والتشويه، بحيث تصبح التنمية والتخلف وجهي العملة الواحدة.

وبالتالي يتفاقم الطابع الطفيلي للمجتمع المركزي. ففي روما أفسد الخراج (وهو شكل الفائض المستخرج) طبقة العامة وشلّ ثورتها. أما في مجتمعات المركز الإمبريالي المعاصر فإن جزءاً متنامياً من أهلها بات يستفيد من وظائف غير منتجة ومن مواقع متميزة بزغت وازدهرت هنا من جراء آثار التقسيم الدولي اللامتكافئ للعمل. لذلك صار تحقيق الانفكاك من النظام الإمبريالي أمراً عسيراً، يعوق قيام تحالف مناهض للإمبريالية قادراً على الإطاحة بالتحالف المهيمن وعلى فتح السبيل للانتقال الاشتراكي.

وبالرغم من ذلك فإن شعور التمرّد الكامن على العلاقات الرأسمالية لم يختف في المراكز؛ غير أنه ظل مشلولاً بالعجز. فالذين يتطلعون إلى (تغيير الحياة) يعجزون عن تغيير الحكومة! لذلك تركزت الخطوات التقدمية التي تم تحقيقها حتى الآن في  مجالات الحياة الاجتماعية أكثر منها في  مجال تنظيم الإنتاج والدولة. ويقوم انهيار القيم البورجوازية والثورة الصامتة ضد العادات والتقاليد المحافظة شاهداً على هذا الوجه التناقضي للسيرورة. فكثيراً ما تكون الممارسات الاجتماعية وشبكة الأفكار حولها في التخوم أقلّ تقدماً بأشواط مما هي عليه في المراكز. ومع ذلك تشهد التخوم أهم التجارب التي رسمت لنفسها هدف (بناء الاشتراكية).

انطلاقاً من هذه المقارنة أقترح التمييز بين طرازين متباينين كيفاً من الانتقال من نمط إنتاج سائد إلى نمط آخر.

فعندما يتم هذا الانتقال على نحو غير واعٍ، أو بوعىٍ مستَلب، أي عندما لا تسمح الإيديولوجيا التي تحرك المجتمع بالسيطرة على سيرورة التغيير فإن هذا الأخير يبدو أشبه بتغير طبيعي، تشكل الإيديولوجيا جزءاً من طبيعته. وهذا النوع من الانتقال هو ما نخصّه باسم (النموذج الانحطاطي). ويوفر الانتقال من النظام الروماني القديم إلى الإقطاعية الأوربية مثالاً لهذا النوع من التطوّر التاريخي. فلا يتحدث أحد عن (الثورة الإقطاعية) بصفتها وسيلة الانتقال المعني، بل يتحدث الجميع عن انحطاط وتدهور النظام القديم.

أمّا إذا أمكن للإيديولوجيا بالمقابل أن تعطي البعد الشامل والفعلي للتغيير المبتغى، فقد حقّ لنا عندئذ فقط ان نتكلم عن ثورة، أو عن طريق الثورة. وتوفر نماذج الانتقال من الإقطاعية الأوربية إلى الرأسمالية أمثلة متنوعة لهذا الطريق الثوري، ولو بدرجات متباينة من حيث درجة جذرية الثورة المعنية، وبالتالي ألواناً متفاوتة من حيث نضوج الوعي ونفاذ بصيرة القوي الفاعلة الملموسة.

ما الذي نستطيع أن نقوله بالنسبة للأوضاع الراهنة في ضوء هذه التأملات؟

هل تفتح الأزمة الهيكلية للرأسمالية التي أصابتها الشيخوخة سبيلاً للدخول في مرحلة انتقالية تتيح بالتدريج إنجاز خطوات ثورية الطابع؟ أم نحن أقرب من نموذج تطوّر يفلت من العقلية حتى تحكمه الفوضى والانحطاط؟

يزعم البعض أن عصرنا ليس في الواقع عصر الانتقال إلى الاشتراكية وإنما عصر التوسع العالمي للرأسمالية التي انطلقت من (البقعة الأوربية الصغيرة) وطفقت، اليوم فحسب، تمتد باتجاه الجنوب والشرق السابق (الاتحاد السوفيتي والصين). ويلجأ هؤلاء في طرح هذه النظرة إلى ما يرونه (فشل) التجارب الاشتراكية في الشرق والتجارب الوطنية في الجنوب. فيقولون إنه يوم أن يكتمل هذا التحول سيتجلّى التطوّر الإمبريالي، لا على أنه المرحلة الأخيرة للرأسمالية، بل على أنه مرحلة الانتقال إلى الرأسمالية الكونية. وحتى في حال الاستمرار بالتسليم بأن الأطروحة اللينينية عن الإمبريالية صحيحة وبأن التحرر الوطني يشكل جزءاً من الثورة الاشتراكية وليس من الثورة البورجوازية، أفلن يكون ثمة مجال لاستثناءات؟ أي لظهور مراكز جديدة؟

تشدّد هذه الأطروحة على الرِدّات وعلى السير باتجاه النمط الدولاني في البلدان الاشتراكية لتصف ما لم يكن إلا ثورات اشتراكية زائفة بأنه عبارة عن سيرورة موضوعية للتوّسع الرأسمالي، ولن يكون للماركسية في هذه الحال من دور إلا أن تكون إيديولوجيا استلابية تتستر على الطابع الحقيقي لهذه التطورات وتحجبه عن الوعي.

أما أنا فأنظر إلى هذه الأمور نظرة مغايرة تماماً. فأزعم أنه – في حال استقرار الأوضاع في  إطار العولمة القائمة – لن يؤول تطوّر موازين القوى الظاهرية لصالح مجتمعات التخوم إلى ظهور مراكز جديدة، بل سيتمخّض عنه فقط تجديد أشكال العلاقة غير المتكافئة بين المراكز التاريخية والتخوم المستحدثة. وبالتالي مازال السير في سبيل الثورة المتواصلة على مراحل مطروحاً على جدول التاريخ. ولا تقوم الرِّدّات التي تجلب في انهيار نماذج موجة التجارب الاشتراكية للقرن العشرين دليلاً على (نهاية التاريخ)، بمعنى ديمومة الرأسمالية وقدرتها على التكيّف مع جميع التحولات التي قد تحدث.

لنا أن نتذكر أن تبلور الرأسمالية في شكله التاريخي المعروف في أوربا الغربية لم يحدث بغتة، ولكن بعد إجهاض سلسلة من التجارب السابقة على امتداد قرون خصّت مجتمعات عديدة من الصين إلى الشرق الأدني والمدن الإيطالية. لماذا إذاً لا يتكرر التاريخ فيما يخُصّ الانتقال إلى الاشتراكية؟ وأن تظهر موجة ثانية من المبادرات تدفع في اتجاه التحوّل الاشتراكي بعد إجهاض الموجة الأولى؟

على أن الاستهلال في هذا السير يتطلب توفير شروط ذكرتها أعلاه، وهي ظهور وتطوير وعي أكيد غير مُستَلب لما تقتضيه استراتيجية نضال فعّالة. بيد أن هذه الشروط لا تزال غير متوّفرة إلى الآن، كما رأينا في المقال السابق (في أصول الفوضى الراهنة).

وبناءً عليه يظل المستقبل المنظور غير محدد. فثمة احتمالان ممكنان على قدم المساواة. أولهما أن تستمر الأوضاع على ما هي عليه؛ وفي هذه الحالة سيظل طريق الانتقال إلى الاشتراكية مغلقاً، ويدوم جو الفوضى سائداً على نمط ما حدث في زمن انهيار الإمبراطورية الرومانية، التي تلته قرون من البربرية قبل أن تستقر الأمور مع إنعاش الحضارة في إطار النظام الإقطاعي.

ولكن وسائل التدمير (العسكرية) في متناول السلطة المعاصرة لا تقارن بما كانت عليه قبل ألفين عام. وبالتالي فإن تكرار هذا النمط المأساوي يحمل في طيّه خطراً صحيحاً لتحطيم الحضارة تحطيماً مطلقاً ونهائياً.

أما الاحتمال الآخر فهو مرهون بإدراك الحركات النضالية لنواقص فهمها للواقع حتى تصبح قادرة على طرح وفرض بديل متماسك وفعّال.

يمر بناء مستقبل (أفضل9 بمرحلة تفكيك نظام مركزة فائض الناتج الخاص بالرأسمالية المعولمة القائمة، أي عبر مرحلة – قد تطول – تقتضي (فكّ الارتباط) بمعنى الخروج من هذه العولمة. على أن التفتّت في تحصيل واستخدام الفائض لا يمثل في رأيي الهدف النهائي للتحوّل المبتغي. وهنا أيضاً قد تفيد المقارنة مع تاريخ أوربا بعد سقوط الدولة الرومانية. لقد مثّل التفتّت الإقطاعي تقدماً صحيحاً بالنسبة إلى الشعوب التي كانت ضحية سيادة روما. إلا أن التطوّر اللاحق عبر تجاوز الإقطاعية وبزوغ الرأسمالية، قد أدّى إلى العودة لمركزية تحصيل الفائض. وقد حدث ذلك على مرحلتين. ففي المرحلة الأولى أعيد بناء المركزة على صعيد الملكيات الأوربية الكبرى (بريطانيا وفرنسا خاصة) في عصر المركنتيلية (من عام 1500 إلى عام 1800). وفي المرحلة التالية – مرحلة الرأسمالية المكتملة – صارت مركزة الفائض سارية هذه المرة على الصعيد العالمي، ولو على أسس ضمنت انحصار المراكز الإمبريالية بالاستفادة منها. وفي ظروفنا المعاصرة ينبغي أن ننظر إلى فكّ الارتباط على أنه ضرورة فورية. علما بأنه لا يمّثل نهاية التاريخ، فهو الوسيلة الوحيدة التي تهيئ ظروفاً ملائمة لتجاوزه من خلال بناء مجتمع عالمي جديد، اشتراكي الطابع.

عن (مركز أبحاث الماركسية واليسار)

العدد 1105 - 01/5/2024