صراع السلفيات

مع التراجع المخيف الذي شهدته الأفكار والإيديولوجيات القومية واليسارية في العالم العربي قبل نهاية الألفية الثانية، والمرتبطة بالتغيرات التي حدثت في العالم ككل، نشطت التيارات الدينية السياسية بشكل عام والإسلامية بشكل خاص، لمحاربة المد القومي والاشتراكي وأخذت تحتل مكانه بين أوساط الجماهير العربية، وتشكلت التيارات الجهادية لمحاربة السوفييت في أفغانستان أو ما سمي (الأفغان العرب)، وعودتهم إلى بلادهم والبدء بالتأثير في مجتمعاتهم، والعمل على تشكيل فكر جهادي بحت، وساعدهم على ذلك دعم أنظمة البترول، والدعم الرأسمالي، واتجاه أغلب الأنظمة العربية إلى نظام الاقتصاد الحر والانفتاح الاقتصادي غير المدروس وما حمله من بؤس اقتصادي واجتماعي وفكري، أدى إلى تعلق الجماهير العربية بالدين وبحثهم عن حل لواقعهم السيء في الحالة الدينية، للنجاة من واقعهم البائس في كل المجالات، فنشأت مدن الصفيح وازداد الفرق الطبقي بشكل مخيف بين أفراد المجتمع الواحد، يقول كارل ماركس: (الدين زفرة الإنسان المسحوق، روح عالم لا قلب له، كما أنه روح الظروف الاجتماعية التي طرد منها الروح. إنه أفيون الشعب).

ومع بروز المشروع الأمريكي_ النفطي لتقسيم المنطقة العربية وإعادة تشكيلها، بما يخدم مصالح الإمبريالية العالمية في ضرب الأفكار التحررية وثقافة المقاومة في العالم العربي من خلال مشروع (الربيع العربي)، ظهرت تيارات ومنظمات إرهابية ظلامية، وقامت بممارسات هائلة العنف والوحشية من قتل وتدمير للبنى المعرفية والتحتية للبلاد العربية، وحاولت إغراق المجتمعات بفكرها السلفي المتشدد.

من هنا نشأت ردات فعل كثيرة ضد الإسلام والعروبة_ ردات فعل عفوية وأخرى منظمة تخدم مصالح وأجندات لأفكار وأحزاب مغرقة في محليتها ومنغلقة أيضاً. ومن أبرز مظاهر هذه الردات، الدعوة إلى إقصاء الفكر العربي الإسلامي وتأثيره في حياتنا وشطب ما يقارب 14 قرناً من ثقافتنا وحضارتنا، ودعم الأفكار ما قبل الإسلامية وحتى المسيحية، والاحتفال بالحقبة التي تمتد إلى ما قبل ولادة السيد المسيح، والتغني بإنجازات الفينيقيين والأقوام التي سكنت بلادنا.

إن الحديث عن أمة سورية خالصة هو حديث خارج التاريخ المعرفي والعلمي، فلا وجود لأمة صافية ولا لعرق صاف، فالحضارات متداخلة وتذوب في بعضها خصوصاً مع التعدد الإثني والتفاعل الحضاري الذي حصل في بلادنا.

من المفيد التغني بإنجازات الشعوب التي سكنت في هذه البلاد، ولكن من المضر شطب الفترة الزمنية والحضارة الأكثر تأثيراً في هذه المنطقة، وإلصاق تهمة التخلف والإرهاب بها فقط، فنحن في هذه الحالة نحارب سلفية بسلفية أخرى، وكأنها قامت بمعجزات في مجال المحبة والسلام، ولكن هل كان ذلك المنجز سلمياً بحتاً بلا حروب ولا دمار؟!

لا يمكن لقراءة موضوعية للواقع المعاش أو لحركة التاريخ أن تغفل ما للعامل الديني من تأثير في بنية المجتمعات وحركتها وتحالفاتها. ففي عصرنا الحالي تبرز حالتان هامتان توضحان تأثير العامل الديني في السياسة والتفكير الجمعي للشعوب.

الحالة الأولى نراها بوضوح في العلاقة التركية_ الأوربية، فرغم السعي الحثيث للأتراك على مدى عقود طويلة ورغم الانصياع للكثير من المطالب الأوربية، فإن العديد من تلك الدول ترفض انضمام تركيا المسلمة إلى النادي المسيحي الأوربي.

الحالة الثانية وهي حالة عربية بحتة تدور حول فلسطين بشكل عام ومدينة القدس خصوصاً، فعلى الرغم من وجود العديد من الأراضي العربية المحتلة إلا أنها تتراجع بوضوح أمام بروز القدس المحتلة، وذلك يعود بشكل مركزي لرمزيتها الدينية المقدسة مسيحياً وإسلامياً في الشعور العربي واحتوائها على الأماكن المقدسة.

مع بداية عصر النهضة العربية، ثم الاحتلال الأوربي لأغلب الوطن العربي، تحول الاعتزاز بمنجزات الازدهار الحضاري في التاريخ العربي الإسلامي، إلى دافع وحافز لتعزيز فكرة الوجود القومي والوطني، وبالتالي إلى حركات تحرر وثورات للتخلص من الاستعمار العثماني ومن ثم الاستعمار الأوربي.

بما أننا لا يمكن أن نلغي الصفحات والمواقف السوداء من تاريخنا العربي الإسلامي، فإننا في الوقت ذاته لا يمكن أن نلغي الحضارة العربية الإسلامية وما حققته من منجزات ثقافية وفكرية، ولا يمكن الإنكار ان هذه المنجزات كانت نتيجة التفاعل مع الحضارات الأخرى، ويمكن إخضاع هذه التفاعلات للمبدأ الهيغلي (نفي النفي). فالحضارة العربية الإسلامية كانت فاعلة ومتفاعلة مع الحضارات والفلسفات الأخرى وأسهمت ثورياً في الكثير من الميادين الفكرية والفلسفية والعلمية.

إن البحث الموضوعي والعلمي لفكرة التاريخ والتراث يستلزم منا الاحتفال بالمنجزات الفكرية السابقة لكل الحضارات التي تعاقبت على أرضنا، وفي الوقت ذاته الإضاءة على المواقف السلبية ونقدها إيجابياً في ضوء المستجدات الحالية وحركة التاريخ، وهي مهمة ملقاة على عاتق القوى الثورية والتقدمية في حركة التحرر العربية التي كما لها رؤيتها ومنهجها المختلف عن القوى الظلامية المتخلفة في الحاضر، فإن لها أيضاً سابقاً في التاريخ العربي الإسلامي رؤيتها ومنجزاتها المختلفة عن القوى السلفية الرجعية، وبالتالي الاستفادة من هذا المنجز الثوري التاريخي واستثماره في صراعها الحالي والمستقبلي، لبناء مجتمع عربي متحرر وتقدمي. يقول د. حسين مروة في مقدمة كتابه (النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية): (إن ثورية الموقف من قضايا الحاضر، تستلزم الانطلاق من هذا الموقف نفسه لرؤية التراث أي لمعرفته معرفة ثورية، اي لبناء هذه المعرفة على أساس من إيديولوجية القوى الثورية نفسها في الحاضر. أي القوى التي لها علاقة تاريخية موضوعية بالأساس الاجتماعي لإنتاج التراث الفكري في الماضي، نعني بها القوى الاجتماعية السابقة المنتجة للأسس المادية التي انعكست في أشكال الوعي الاجتماعي (الفلسفة، العلم، الفن، الأدب) المكونة لهذا التراث).

العدد 1107 - 22/5/2024