(الغثيان) لجان – بول سارتر: في غياهب الوحدة المطلقة

(تفكيري هو أنا ذاتي: ولهذا السبب لا يمكنني أن أتوقف. أنا موجود بما أفكره… ولا يمكنني منع نفسي من التفكير. وفي هذه اللحظة بالذات – ويا للهول – إذا كنت موجوداً، فما هذا إلا لأن وجودي يرعبني. إنه أنا، أنا الذي يسحبني بعيداً من العدم الذي أنشدّ إليه: الكراهية، الاشمئزاز من الوجود، ليسا سوى بعض الوسائل التي تجعلني موجوداً، تجعلني غائصاً في الوجود. الأفكار تولد من وراء ظهري مثل دوخان، أحسها تولد خلف رأسي… فإن أذعنت فسأراها تتحول إلى أمامه لتتراقص أمام عينيّ – وأنا أذعن دائماً، فيما تتضخم الفكرة، تتضخم وها هي في ضخامتها تملؤني في كليتي وتجدد وجودي).

ليست الفقرة السابقة سوى بضعة سطور من واحدة من أقوى الروايات الفرنسية التي صدرت في أواخر مرحلة ما بين الحربين في فرنسا. رواية قُرئت وتُرجمت على نطاق واسع، لتعزز في ذلك الوقت المبكر، سمعة ومكانة الفيلسوف الشاب الذي كانه جان – بول سارتر، محوّلة إياه من مفكر ومنظر في النقد، إلى كاتب روائي. ومع هذا صعب على كثيرين يومذاك أن يعترفوا لسارتر بأنه روائي، بالنظر إلى أن شكل هذه الرواية ومضمونها لم يكونا معهودين تماماً. فهي كانت أقرب إلى أن تكون يوميات حميمة لكاتب، اكتشف وهو يحاول أن يغوص في عمل كتابي تاريخي، ليس فقط عجزه عن تحمّل الوجود، بل خواء هذا الوجود، خواء يسبب له من الغثيان ما يكفي لأن يخدمه كعنوان لكتابه هذا. فالرواية هي، طبعاً، (الغثيان) الصادرة في عام 1938 حين كان سارتر في الثالثة والثلاثين من عمره، لتكون ثاني كتبه بعد (الخيال)_1936.

والحقيقة أن (الغثيان) التي افتتحت مسار سارتر كروائي، قادت ذلك المسار طوال سنوات عشر تالية انصرف خلالها سارتر إلى الانكباب على عمل روائي، سيتوقف بعد ذلك بنحو عشر سنوات، ليطبع مرحلة من حياته تضافرت فيها كتابته الرواية مع كتابة المسرحيات، ما وعد بأنه سيكون لاحقاً واحداً من كبار الأدباء في اللغة الفرنسية. غير أن الرجل، بدءاً من نهاية سنوات الأربعين تخلى عن كتابة الرواية، بعدما أصدر (موت الروح)_ 1949، ليواصل كتابة المسرحيات بعض الشيء (الشيطان والإله الطيب)_ 1951، و(كين)_ 1953، و(تكراسوف)_ 1955، ثم (أسرى آلتونا)_ 1959. ولكن هل حقاً يمكننا، بعد كل شيء، النظر إلى (الغثيان) كرواية؟ نعم، سيقول كبار باحثي عمل سارتر، حتى وإن أقروا بأننا هنا أمام ما يشبه السيرة الذاتية المواربة، وهو نفسه ما ينطبق على سلسلة (روائية) كان يفترض أن تتألف من أربع روايات تصدر بين 1945 و1949، لكن الكاتب لم يصدر منها في نهاية الأمر سوى ثلاث تحت عنوان عام هو (دروب الحرية): (سن الرشد)_ 1945، و(وقف التنفيذ)_ 1945 أيضاً، ثم (موت الروح)_ 1949.

ونتوقف هنا عند (الغثيان).

 الشخصية المحورية في هذه الرواية هي شخصية الأديب الشاب أنطوان روكتان. أما مكان أحداثها فهو مدينة مرفئية فرنسية تدعى بوفيل، لا وجود لها في حقيقة الأمر، وإن كانت مواصفاتها في الكتاب تنطبق على مدينة الهافر في الغرب الفرنسي الأعلى حيث عاش سارتر بالفعل ردحاً من حياته. وروكتان، الذي سرعان ما نكتشف أنه يكاد يكون (أنا/ آخر) لسارتر نفسه، يقيم الآن في بوفيل بعدما سئم حياة المغامرة والعمل والاختلاط بالآخرين، فلجأ إلى هذا المكان ليعيش فيه منعزلاً، على الأقل، حتى ينجز كتابة سيرة المركيز دي رولبون التي تشغله الآن. وما (الغثيان) في نهاية الأمر، سوى وصف شبه يومي لإقامة روكتان في المدينة، حيث يبدأ بالتصاعد لديه، وبشكل أكثر قوة يوماً بعد يوم، شعور باللاجدوى وبالغثيان، تجاه الكتابة والمدينة والناس والوجود بأسره. إن الغثيان، كما يخبرنا هو نفسه، يتصاعد بدأب غامراً جسده ثم وعيه ثم أفكاره. فالحال أن وحدة أنطوان في ذلك المكان، بما في ذلك وحدته خلال اللقاءات القليلة التي تمر به، والعلاقات النادرة التي يقيمها، تارة مع العصامي في المكتبة، وطوراً في المقهى الذي يرتاده معتبراً إياه ملجأ يقيه وحدته وذلك الشعور القاتل الذي يستبد به، ثم مع المرأة التي يجد نفسه مندفعاً، إنما من دون حماسة لإقامة علاقة معها، تلك الوحدة التي كان هو من أرادها وسعى إليها، تبدو له الآن نوعاً من التدمير الذاتي، غير أنه عاجز في الوقت نفسه عن التصدي لها. إنه عاجز عن أي شيء وكل شيء، بدءاً من التقاط ورقة في الشارع على مبعدة متر أو مترين منه، وصولاً إلى التفكير فيما يمكن له أن يفعل في اليوم التالي. غير أن الشيء الوحيد الذي يقلص بعض الشيء من شعور اللاجدوى لديه، لن يكون سوى محاولته فهم أسباب هذا الشعور. لماذا يحدث لديه هذا التغيير الجذري الذي يتفاقم يومياً؟

لكن المشكلة الأكثر غرابة هنا هي أن التغيير الذي يرصده ويكون الوسيلة الأقوى لتدميره يومياً – تدميراً من المؤلم أنه يبقى نذيراً لا يتحقق على أية حال -، لا يطاوله من داخله فقط، بل يطاوله في علاقته مع الأشياء، بدءاً من أصغر تفاصيل الأشياء، من غليونه، إلى قبضة الباب، من القدح الزجاجي، إلى شوكة الطعام… وصولاً إلى الناس المعزولين – في المكتبة العامة، مثلاً، حيث يشتغل على كتابة السيرة -. ولأنه يبدو عاجزاً عن فهم التغيرات التي تخترقه من داخله، يخيّل إليه أحياناً أن لجوءه إلى الأماكن المزدحمة بالناس، سوف يكون فيه ترياق له، فيفعل… ولكن حتى هذه الأماكن لن توفر له أي ملجأ ولا سيما مقهى مابلي. ففي هذا المقهى/ المطعم كل شيء يبدو عادياً وطبيعياً أول الأمر. بل يكاد كل شيء يبدو محبباً. ومع هذا فإن أنطوان هنا وحيد معزول. وهو حين يحاول أن يرتبط بعلاقة مع فرانسواز، مديرة ملهى (ملتقى عمال السكة)، يشعر فجأة بأنه غير راغب بها. وإزاء هذا كله يستبد به شعور طاغٍ بأن عزلته قد جعلته مختلفاً كل الاختلاف عن الآخرين. بات غير قادر على الاندماج بهم. وهو حين يستمع إليهم وهم يحاولون أن يرووا حكايات، يدهش بصدق أمام هذه القدرة لديهم على أن يحكوا… ويتضح له بشكل فاقع أنه الآن قد ذهب بعيداً في غربته عن الآخرين، في وحدته وغثيانه. وإذ ينتهي به الأمر هنا إلى الاعتقاد بأن مدينة بوفيل هي التي تُسبب له هذا كله، يغادرها عائداً إلى باريس. لكن وضعه في باريس لن يكون أفضل. ومن هنا يعود أدراجه إلى بوفيل… ليكتشف أنه لم يعد لديه ما يفعله هنا، فيقرر مبارحتها نهائياً هذه المرة، لكنه إذ يقصد المكتبة في زيارة أخيرة ليزور العصامي الأكثر إنسانية في المدينة لوداعه، يكتشف أن هذا بات ممنوعاً من دخول المكتبة بعدما أثار فيها فضيحة، إذ غازل طالباً شاباً داخلها. وإثر هذا يشعر أنطوان أن وحدته قد اكتملت تماماً، لكن الغريب أنه يستطيب هذا السقوط النهائي، ويستطيب هذا النسيان الذي يلفه. وأخيراً وفيما هو يستمع من جديد إلى أغنية أمريكية لم يتوقف عن الإعجاب بها، يقرر أن يكتب رواية. يقرر أن يصف ما ينتابه من غثيان في رواية، يشعر إزاءها أن الإبداع الفني قد يكون هو ملاذه الأخير.

ولعل الغرابة الأساسية هنا تكمن في أن أنطوان، على رغم كل تلك الصورة التي رسمها له سارتر في (الغثيان)، ظل حتى النهاية راغباً في الوصول إلى الخلاص، إلى إنقاذ نفسه، من الوحدة والنسيان. بمعنى أن كل ما حدث لأنطوان لم يقده إلى ذلك اليأس الذي كان في وسعنا تخيّل سقوطه فيه. ولعل هذا الإيمان بدور الإبداع في الخلاص – حتى وإن كنا لن نعرف أبداً مآل مشروع أنطوان – يشكل بارقة أمل حقيقية ولا سيما إذا خلصنا إلى أن رواية (الغثيان) نفسها تمثل ذلك الخلاص، شرط أن نكون موقنين من أن أنطوان روكتان، هو جان – بول سارتر (1905-1980) نفسه. وأن هذه (الرواية) ليست، في لعبة مرايا واضحة، سوى جزء من سيرة سارتر نفسه.

(الحياة)

 

العدد 1107 - 22/5/2024