الانقسام حول المؤامرة

التفكير الجدلي يمنح أصحابه رؤية الحدث من جوانبه المتعددة، وبالتالي تحليله في أرحب مجالاته واستخلاص النتائج الأصح لمعالجته، على النقيض من التفكير الأحادي المؤدي إلى العجز وهو الأكثر شيوعاً ومن تجلياته العبارات الملقنة مثل (لا أؤمن بنظرية المؤامرة، لا توجد مؤامرة، المؤامرة من الداخل وليست من الخارج، إيماننا بالمؤامرة سبب تخلفنا، المؤامرة في عقولنا.. إلخ) التي برعت نخب مثقفة مأجورة في لصقها على ألسنة الجمهور لتتردد ببغائياً بجرعة من فخار أجوف لعارف معاصر ظن أنه تجاوز يقينيات الماضي وانسجم مع المعطيات الجديدة للصراع الدولي، وهي جزء من تكتيكات التضليل الهادفة لتخصيب البنية الاجتماعية أو جزء منها كبيئة حاضنة للمشاريع الاستعمارية في الداخل، وشكل من أشكال النظرة الأحادية التي لم ترَ من الحدث السوري سوى جانبه الداخلي تحمّله أوزار الكارثة السورية وتبعاتها، وتبرّئ في المقابل قوى العدوان الخارجي وتنفي عنها الجريمة وتمضي قدماً في خساسة الاستثمار الأقصى للوعي المتدني للناس البسطاء ومعاناتهم وقوداً مؤجّجاً لنار ممنوع إطفاؤها حتى تحقيق مصالح تلك القوى .

بالتالي فأي بحث موضوعي لا يمكنه تحميل المتآمرين في الخارج أخطاءنا الداخلية، وفي الوقت نفسه لا يمكنه نفي حقيقة المؤامرة ولا حتى تجاهلها أو الإيحاء بأنها مجرد وهم في خيال الشعوب الخاسرة أو مجرد شماعة يعلق عليها الاستبداديون جرائمهم، أو التنصل من إدراجها في الحسابات السياسية، أو إثارة اللغط البيزنطي حول معناها من الناحية اللغوية. وفي الحقيقة ليس المستغرب هو التآمر، بل عدم التآمر على سورية التي لم تتوقف المؤامرات عليها منذ الاستقلال، فكيف في زمن الهيمنة الأمريكية، وهي ذات الثقافة الوطنية السيادية المعادية للاستعمار والتبعية وذات البنية الاجتماعية التعددية المتماسكة التي تقتضي العولمة الأمريكية تفكيكها حتماً؟

لقد ترافقت أحداث آذار2011 في سورية بحرب نفسية جبارة مارستها وسائل الاتصال بكثافة غير مسبوقة، ومن نتائجها التأثير العميق داخل التشكيلة الاجتماعية طائفياً ومذهبياً وعرقياً، والنقاش حول حقيقة المؤامرة هو جزء من ذلك التأثير، ففي الوقت الذي كان يحتدم فيه النقاش بين من يؤكد ومن ينفي ما سمي بنظرية المؤامرة كانت غرف العمليات الأمنية المختلطة بين الدولي والإقليمي ماضية في تنفيذ أولى مراحل تدمير الأعمدة التي تستند إليها الدولة السورية، حسب المنهاج المخطط، ولم يتراجع ذلك النقاش رغم ظهور اعترافات واضعي المخطط أنفسهم، من برنارد لويس إلى ليفي إلى رايز وكلينتون وأهم الأدوات التنفيذية في منظمة أتوباور (الطاقة الذاتية) التي تحولت إلى (كانفاس) التابعة لوزارة الخارجية الأمريكية، حيث ألقى مؤسسا المنظمة سلوبودان جينوفيش وسرغي بوبوفيتش في جامعة هارفارد محاضرة أعلنا فيها صراحة أن منظمتهم تستهدف سورية منذ عام 2003، وغيرهم كثيرون، وكنت قد عرضت في مقال سابق بعض الوثائق.

مثل تلك التناحة الناجمة عن التأثير العميق للحرب النفسية غطّت طيفاً واسعاً من العمليات التنفيذية للمؤامرة، فقد بقي جزء من شعبنا حتى عام 2014 على الأقل يردد بأنه لا يوجد مسلحون ولا إرهابيون رغم أن الوثائق كشفت بعد أشهر قليلة على بدء الأحداث حتى عن أسماء الضالعين في شبكات تهريب المسلحين الإرهابيين والسلاح إلى الداخل السوري وتأمين كافة مستلزمات الدعم، وحتى بعد ظهور صور لبرنارد ليفي وجون ماكين وبرهان غليون وجورج صبرا برفقة إرهابيين داخل الأراضي السورية ملأت الأنترنيت بقي من يردد الموقف ذاته.

 لقد جاء في مقال للكاتب توني كارلتوش عام 2012 أن تنظيم الإخوان المسلمين يقود أحداث العنف الطائفي في سورية لما يزيد عن عام برعاية أمريكية إسرائيلية سعودية قطرية، وفي العام نفسه كشف الصحفي براند نبورفيل عن وثائق استخبارية تؤكد أن واشنطن كانت تعرف مسبقاً نتائج دعمها للمعارضة السورية، وسمحت بقيام داعش عمداً من أجل عزل النظام السوري، وكذلك كشف الكاتب هادي دانيال أن رائد صلاح زعيم الحركة الإسلامية في الأراضي المحتلة أبرم في العام ذاته تفاهماً مع المخابرات الإسرائيلية شين بيت يقضي بغضّ النظر عن إرسال مسلحين من حركته للجهاد في سورية، وبالفعل سافر العشرات منهم وخاصة من أهالي قريتة أم الفحم، كما كشفت وثائق ويكيليكس معلومات مسربة من ciaتؤكد أن السلفيين والإخوان المسلمين وتنظيم القاعدة تعد القوى الرئيسية التي تدفع التمرد في سورية، وهي معلومات متوافقة مع وثائق اكتشفت في السفارة الأمريكية في ليبيا بعد مهاجمتها، مضافاً إليها معلومات مفصلة عن شحنات من الأسلحة الليبية وصلت إلى مرفأي بانياس وبرج سلام على الساحل السوري منذ عام 2011 (راجع جريدة الأخبار اللبنانية – وثائق وزارة الدفاع حول سورية وليبيا وهجوم بنغازي – عامر محسن).

وكل ذلك لم يكن كافياً ليقتنع البعض بحجم التدخل الخارجي وجسامة المؤامرة حتى بلغ عدد الإرهابيين الأجانب الذين غزوا سورية حسب آخر الإحصائيات التي أعدّها مركز الدراسات الألماني فيريل 360 ألف إرهابي بين عامي 2011 و2015، وهم من 93 جنسية في العالم.

إن الانقسام حول المؤامرة يشكل بحد ذاته برهاناً على إخفاق داخلي في الحفاظ على وحدة النسيج السوري، وفشل في حشده وراء سياسة الممانعة والمقاومة، ونجاح سياسة التخطي الأمريكي للحدود الوطنية والقومية، ويشكل في الوقت نفسه التحدي الأكبر الذي يواجه القوى الوطنية العلمانية والتقدمية مجتمعة لمنع استكمال ذلك الخرق، بأن تبدأ بتحرير الوعي المستلب لطَيفٍ من شعبنا وفكّ الطوق المعرفي المركب إعلامياً المضروب حوله، فالمواجهة العسكرية مع الإرهاب الوكيل هي جانب مؤقت مفروض واقعياً وستنتهي يوماً.. أما المواجهة الثقافية مع نظريات التفوق الأمريكي والقوقعة التراثية السلفية الفاشية، وفضح المصالح المتبادلة بينهما، فهي الضامن الأكيد المستمر لعودة وحدة المكونات الاجتماعية السورية، وعودة روحية النضال الجماهيري ضد الاستعمار بفبركاته وألاعيبه على المدى الطويل. 

العدد 1107 - 22/5/2024