الانقسام.. والطريق نحو الوحدة!..

في تصريح لافت لنائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس موسى أبو مرزوق، نشر في جريدة الغد الأردنية يوم 30/12/2016 دعا فيه لاعتماد (النظام الفيدرالي) بين الضفة الغربية وقطاع غزة.. من أجل إنهاء حالة الانقسام (التي مضى عليها عشر سنوات، حسب رأي السيد أبو مرزوق!..

ربما دعوة كهذه تلائم المجتمعات التي يعيش فوق جغرافيتها انتماءات قومية وإثنيات متعددة.. أما في حال الشعب الفلسطيني الذي لا يتوافر إلا على انتماء وطني وقومي واحد، فإن الدعوة هي تكريس للانقسام وهروب من معالجة الأزمة التي طال أمدها.. إضافة إلى ما يمكن أن تسببه من خسائر كبيرة للقضية الوطنية، فالهدف الوطني المركزي للشعب الفلسطيني وحركته التحررية لا يزال يتمحور حول: إنجاز حق تقرير المصير وممارسة السيادة في دولة مستقلة على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس، ذلك بفعل الحق الطبيعي والتاريخي وبفعل تأييد الشرعية الدولية والاعتراف الدولي الواسع بالحقوق الوطنية والقومية المشروعة للشعب الفلسطيني فوق ترابه الوطني.. هذا التحديد يستبعد فكرة الفيدرالية أو الكونفدرالية، كما يستبعد حشر الفلسطينيين في بانتوستانات تحت السيطرة الإسرائيلية!..

* استعادة الوحدة الجغرافية والسياسية:

إن استمرار الانقسام يمنع فعلياً إنجاز حق تقرير المصير.. والمطلوب هنا ليس مصالحة فقط بين حركتي فتح وحماس وليس إدارة الانقسام، بل استعادة الوحدة فعلياً وبشكل شامل وعدم الاكتفاء بعلاج بعض الظواهر المجتزأة، وهذا الأمر يتطلب تفاهماً شديد الوضوح على عدد من القضايا:

1– موافقة حركة حماس على التخلي عن سيطرتها على قطاع غزة، والاعتذار للشعب عما حدث عام 2007، وعودة غزة إلى النظام السياسي والإداري الفلسطيني الموحّد.

2- موافقة حركة فتح على التخلي عن سيطرتها على النظام السياسي بشكله الراهن، والقبول بشراكة سياسية كاملة مع جميع الفصائل والتيارات الوطنية، وإعادة إحياء وتفعيل (م.ت.ف) بمختلف مؤسساتها وهيئاتها، بما فيها حكومة السلطة والأجهزة الإدارية والأمنية.

3- التوافق الوطني على أساس سياسي برنامجي يتضمن الهدف الوطني المركزي الذي ينبغي أن يشكّل جوهر الإجماع الوطني، برنامج (العودة وإقامة الدولة وحق تقرير المصير) على أن يكون هناك برنامج آخر لحكومة السلطة الواحدة في الضفة والقطاع بحكم اختلاف وظيفتها.

4- الالتزام الجماعي بالقيم الديمقراطية والتعددية السياسية والفكرية ومبدأ تداول السلطة وفقاً لنتائج الانتخابات الدورية, والاحتكام لصناديق الاقتراع في المجالات والمستويات كافة.

تحت مظلة الانقسام جرى تقويض أركان الحياة الديمقراطية بمختلف تعبيراتها، وتكرست سلطتا أمر واقع، بشكل يمس مبدأ (الشعب مصدر السلطات) وقد أشارت استطلاعات الرأي كلها، خلال السنوات العشر العجاف الماضية، إلى رفض الشعب المطلق للحالة القائمة، ومع هذا فالانقسام ما زال قائماً ومتواصلاً.

لقد استثمر الاحتلال الإسرائيلي الوضع القائم ليستكمل مشروعه الاستيطاني الكولونيالي في الضفة الغربية، وسيطرته على مدينة القدس وتهويدها وممارسة كل أشكال التطهير العرقي والتمييز العنصري في أراضي الـ 48 المحتلة، وتنفيذ سياسات تهدف إلى تمزيق وحدة الشعب واستنزاف طاقاته، كما استثمر حالة التشظي سياسياً عبر الادعاء بعدم وجود قيادة تمثل الكل الفلسطيني، الأمر الذي حرره من الالتزامات الدولية، ووفر هامشاً واسعاً لليمين القومي والديني المتطرف في إسرائيل لتعزيز سطوته وقوته في المجتمع الإسرائيلي,  وبالتالي استمرار قيادته للمؤسستين السياسية والعسكرية على قاعدة برنامجه الذي يتنكر بشكل مطلق لحق الشعب الفلسطيني بإقامة الدولة السيادية  وحق تقريرالمصير..

آفاق جديدة لتعديل ميزان القوى

لعل أخطر نتائج حالة الانقسام أن كلا البرنامجين: برنامج العملية التفاوضية  بالطريقة العبثية التي تطرحها سلطة رام الله، وبرنامج المقاومة بالطريقة النمطية التي تطرحها سلطة غزة، قد اصطدما بجدار صلب، ووصلا إلى طريق مسدود، فلا المقتنعون بالقدرة على إنجاز الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني عبر التفاوض، استطاعوا فتح نافذة تشير لتحقيق ذلك في المدى المنظور، ولا المؤمنون بالمقاومة، بالصيغة المختزلة لفضاء المقاومة وتعدد أشكالها، قادرون على إنتاج أمل أو وعد قريب للشعب، فمن الناحية العملية، تحافظ سلطة رام الله على الهدوء في الضفة، بينما تحافظ سلطة غزة على الهدوء في غزة، الأمر الذي يعني أن الشعب بات أعزلَ وبلا أي سلاح، فلا مقاومة فاعلة ولا مفاوضات منتجة، بل زجّ به تحت مظلة الانقسام، في فضاء فارغ فقد فيه بوصلته، واضطرب سلّم أولوياته، وأدخل في حالة من التيه والضياع.

لقد وفّر هذا الواقع المرير فرصة لا تعوّض للعدو الإسرائيلي، وتحديداً التيارات العنصرية الفاشية الحاكمة، كي تنفّذ فصولاً إضافية من برنامجها الكولونيالي التوسعي، ويمكن قراءة ذلك بوضوح من خلال القرارات والتشريعات والميزانيات التي تخصصها حكومة نتنياهو لإطباق السيطرة على مدينة القدس وتهويدها، وبناء المزيد من المستوطنات، في أنحاء الضفة الغربية لخلق واقع جديد من شأنه تفتيت الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى بانتوستانات  وإسقاط الحل القائم على أساس إقامة دولة سيادية عاصمتها القدس ضمن حدود الرابع من حزيران 1967، علاوة على حرب الاستنزاف التي تواصلها والمتمثلة بهدم المنازل ومصادرة الأراضي والقتل والاعتقال اليومي بهدف ضخ الإحباط واليأس في قدرة الشعب على تحقيق حريته واستقلاله وبناء دولته.

إن الحركة الوطنية التحررية التي استمدت شرعيتها من وعدها للشعب بقيادة نضاله وإنجاز خلاصه الوطني..وتطبيق القرار الدولي رقم  194 المتضمن عودة اللاجئين إلى ديارهم وممتلكاتهم التي هجّروا منها عام 1948، مدعوة اليوم إلى عملية مراجعة وتقويم شاملة لتجربتها، والتوصل إلى خلاصات واستنتاجات تستند لرؤية وتشخيص واقعيين للحالة التي وصلنا إليها، وطرح برنامج العمل الكفاحي والسياسي البديل كي تتوحد في إطاره القوى والتيارات الفاعلة كافة.

إن الحلول المجتزأة التي تناولتها العديد من اتفاقيات المصالحة خلال السنوات العشر الماضية العجاف، مثّلت ذروة (المحاصصة الثنائية) التي عمقت الأزمة الوطنية،  ولهذا ينبغي أن ينطلق التوافق الداخلي من جوهر المبرر الرئيسي لوجود جميع الفصائل وتعهدها بمواصلة النضال من أجل حرية الشعب وخلاصه الوطني، الأمر الذي يتطلب توافقاً على الاستراتيجية الكفاحية الأمثل للتصدي للاحتلال ومشاريعه الاستيطانية الكولونيالية، وهي استراتيجية تمكّن الشعب من تعديل ميزان القوى مع الاحتلال، وصولاً لاستعادة زمام المبادرة وفرض الأجندة الوطنية على واقع الصراع، ثم التقدم نحو الحرية والاستقلال الناجز وحق تقرير المصير والعودة.

لقد بات ملحّاً إعادة إحياء وتفعيل (م.ت.ف) ومؤسساتها بشكل يضمن مشاركة كامل فصائل العمل الوطني (وطنية، إسلامية, وعلمانية) على أسس ديمقراطية تغني وتعزز التعددية والوحدة مع التنوع في المجتمع الفلسطيني، وتكرس مفهوم الشراكة في القرار والنضال، بحيث لا يفرض تيار أو فصيل خياره الآحادي على الشعب، سواء سياسياً أم كفاحياً، وكذلك إعادة انتخاب مجلس وطني فلسطيني جديد وفق مبدأ التمثيل النسبي في الوطن والشتات، وتفعيل جميع الاتحادات النقابية والمنظمات الشعبية (طلاب، مرأة، عمال، معلمين، مهندسين,  أطباء، وصحفيين.. إلخ).

العدد 1105 - 01/5/2024