محاولة أمريكية لإنقاذ إسرائيل الصهيونية من نفسها

حين أجازت واشنطن، بامتناعها عن التصويت في مجلس الأمن الدولي، تمرير القرار 2334 ضد الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، اعتبر البعض ذلك صفعة الوداع من إدارة أوباما لنتنياهو على سجل استفزازاته ومشاكساته الطويل لأوباما وإدارته، لصالح تحالفاته مع أقصى اليمين الأمريكي. لكن هذا السبب، في عالم السياسة، ثانوي وهامشي، مهما بلغ مستواه. بينما اعتبر البعض، وبخاصة من المسؤولين الفلسطينيين، الذين يواصلون الرهان على السراب الأميركي، ذلك صحوة ضمير، في اللحظات الأخيرة من أوباما وإدارته، تجاه قضية الشعب الفلسطيني العادلة، ويتجاهل هؤلاء بعناد حقيقة أن ما يحدد سلوك واشنطن ليست قيم العدل والأخلاق، وإنما المصالح الأنانية. ولكن سرعان ما جاء خطاب جون كيري، وزير الخارجية الأميركية، في 28/12/2016 ليضع النقاط على الحروف، ويكشف الدوافع الحقيقية وراء ذلك الموقف.

خاطب كيري الإسرائيليين اليهود قائلاً: (اليوم هناك أعداد متساوية من اليهود والفلسطينيين بين نهر الأردن والبحر المتوسط، يمكن أن يختارا العيش معاً أو الانفصال في دولتين)، وأضاف: (هناك حقيقة أساسية، وهي إذا كان الخيار العيش في دولة واحدة، فسيكون على إسرائيل أن تختار إما أن تكون يهودية أو ديموقراطية، ولا  يمكنها أن تكون الاثنتين معاً، كما أنها لن تكون أبداً في سلام)، موضحاً دون لبس الدوافع الأميركية الحقيقية من وراء تمرير قرار مجلس الأمن السالف الذكر، بقوله: (ما ندافع عنه هو مستقبل إسرائيل كدولة يهودية وديموقراطية …)، معتبراً أن تنفيذ حلّ الدولتين(..يعني الاعتراف بإسرائيل دولة يهودية…)، وأنذر كيري في كلمته الإسرائيليين بأنهم (يقدمون على الانتحار)! وكان قد بدأ حديثه بالتحذير من أن حلّ الدولتين في (خطر شديد)، ومعروف أن كيري ونائب الرئيس الأمريكي بايدن قد حذّرا، أكثر من مرة، في السنتين الأخيرتين على وجه الخصوص من مخاطر الدولة الواحدة على يهودية دولة إسرائيل؛ ومما قاله كيري في هذا الشأن في 18/4/2013: (أعتقد أن نافذة حل الدولتين تنغلق.. وأعتقد أن لدينا فترة من الوقت، سنة أو سنة ونصف أو حتى سنتين، ليكون (الحل) قد انتهى).

من الواضح أن قلق واشنطن على مستقبل إسرائيل، كدولة يهودية، هو وحده الدافع وراء امتناعها عن تعطيل قرار مجلس الأمن المذكور بالفيتو، كما درجت العادة، وذلك في ضوء الحقيقة الديموغرافية (السكانية) التي أتى كيري على ذكرها، وأن خطر إجهاض حلّ الدولتين كامن في استمرار الاستيطان وتصعيده في الأراضي الفلسطينية المحتلة 1967. بمعنى آخر: إن واشنطن أكثر قلقاً وأشد حرصاً على يهودية إسرائيل من حكومة نتنياهو التي يعميها جشع التوسع وضم بقية أرض فلسطين التاريخية.

أما لماذا هذا القلق وذلك الحرص الأمريكي على يهودية إسرائيل حتى أكثر من حكومتها المتطرفة الحالية، فذلك يعود، ببساطة، إلى أن إسرائيل اليهودية فقط هي من تستطيع الوفاء بالخدمات المنوطة بها لخدمة الأهداف والمصالح الأمريكية، في المنطقة وأبعد منها.وإذا كان اليمين الإسرائيلي المتطرف يراهن على (أكل الكعكة والاحتفاظ بها في الوقت ذاته)، أي بضم بقية الأرض الفلسطينية، والاحتفاظ بإسرائيل دولة يهودية عن طريق نظام الأربارتهيد الجاري تطويره وإحكامه في الأراضي الفلسطينية المحتلة 1967، فإن الإدارة الأمريكية ترى أن هذا النظام للفصل العنصري لا مستقبل له شأن صنوه في جنوب إفريقيا، بخاصة في ضوء التطورات العاصفة في المنطقة والعالم، والتي تجري على نحو معاكس لأحلام حكام إسرائيل.

وفيما يتعلق بالعلاقات الأمريكية – الإسرائيلية، ينبغي الأخذ في الحسبان، لدى تقييمها، المبدأين التاليين: الأول- أنها علاقات استراتيجية من الدرجة الأولى، غير خاضعة لمزاجية المسؤولين في الطرفين؛ والثاني – أنها قائمة على مبادلة مصالح، أشبه بالصفقات التجارية، وهذا ما بدا جلياً في الاتفاق الأخير بين حكومة نتنياهو وإدارة أوباما، الذي تعهدت الأخيرة بموجبه، بتقديم (مساعدات) بقيمة 38 مليار دولار على مدى عشر سنوات، وهو المبلغ الأعلى في تاريخ العلاقات بين الدولتين. أي أن إدارة أوباما، برغم العلاقات غير المثالية بينها وبين حكومة نتنياهو، تقدم لإسرائيل ما لم تقدمه أية إدارة أمريكية سبقتها. بمعنى آخر: هذه المساعدات الأمريكية السخية ليست هبة محسن، وإنما أجرة خدمات متفق عليها في مساومة معقدة تستغرق أشهراً أحياناً، كما جرى في الصفقة الأخيرة. وكلما تضاءل نفوذ الولايات المتحدة في المنطقة من جانب، وتنوّعت واتسعت قائمة هذه الخدمات، من الجانب الآخر، ارتفع الأجر.

وبالعودة إلى قرار مجلس الأمن وأقوال كيري، فهما لا يعنيان ولا بحال أن واشنطن تنتصر للحق الفلسطيني، وأنها بالتالي ستدعّم تسوية للنزاع الإسرائيلي الفلسطيني وفق قرارات الشرعية الدولية الخاصة بهذا النزاع، ولا حتى القبول بتولّي الأمم المتحدة معالجة هذا النزاع، بل بقاءه حصراً بيد واشنطن وحكام إسرائيل ليقرروا شكل التسوية ومضمونها. فنائب مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض (بن رودس)، قال بعد تأكيده دعم أوباما كل كلمة في خطاب كيري السالف الذكر، (لكن إذا حاولوا في الأمم المتحدة فرض حلّ للصراع فسنستعمل الفيتو) (هآرتس الإسرائيلية 29/12/2016). ومن الغباء المطلق الاعتقاد بأن واشنطن لم تكن قادرة على إيقاف الزحف الاستيطاني في الأراضي الفلسطينية لو أرادت. فقد استعملت الفيتو أكثر من مرة ضد المطالبة بإيقافه، أكثر من ذلك، فالغذاء المالي الأساسي للاستيطان أتى ويأتي من الولايات المتحدة، بخاصة من تبرعات داعميه، ولو كانت واشنطن ضد هذا الاستيطان فعلاً لفرضت الضرائب عليها، على الأقل، بدل إعفائها، فضلاً عن أنها كانت قادرة على تجفيف مصادر دعم هذا الاستيطان في أمريكا متى شاءت.

بمعنى آخر: لم تكن واشنطن،فعلياً، ضد هذا الاستيطان، ما دام يحقق أرباحاً وإنجازات لإسرائيل، شريطة أن لا يجهض حل الدولتين بالمفهوم الأمريكي، ويفتح آفاق اندماج فلسطينيي الضفة والقطاع، آخر المطاف، في المجتمع الإسرائيلي، حرصاً على يهودية إسرائيل، لكن حين تجاوز هذا الاستيطان الحدود المقدرة وغدا يهدد هذا الحل كان لا بدّ من الاعتراض. وحل الدولتين في القاموس الأميركي ليس وفق الشرعية الدولية وتصورات الطرف الفلسطيني،بل قد لا يتجاوز محمية إسرائيلية. وهذا ليس تجنياً على الطرف الأمريكي. فـ(ورقة الحقائق) التي وزعتها الخارجية الأميركية مؤخراً وضمّنتها رؤيتها لمبادئ السلام في الشرق الأوسط تقول في بندها الخامس: (تلبية الاحتياجات الأمنية لإسرائيل ووضع نهاية كاملة للاحتلال، مع التأكد من قدرة إسرائيل على الدفاع عن نفسها بفعالية، وقدرة فلسطين على توفير الأمن لشعبها في دولة ذات سيادة ومنزوعة السلاح)، أي أن اسرائيل الدولة النووية الوحيدة في المنطقة والتي تحتل بقية الأراضي الفلسطينية منذ خمسين عاماً هي التي بحاجة لضمانات لأمنها، بينما الشعب الفلسطيني الأعزل ينبغي أن تكون دولته منزوعة السلاح!. وبحجة الحاجة الأمنية يمكن الاعتقاد بأن واشنطن ستدعم مطالب إسرائيل باستمرار الاحتفاظ بالأغوار الفلسطيني ومناطق أخرى. أما البند الثالث من (ورقة الحقائق) فيلغي حق اللاجئين، ولو جزئياً، في العودة، ويحصر حقوقهم في التعويض.

ولو تكرر في حزيران 1967 ما جرى من نزوح كما في العام 1948، وقامت إسرائيل بضم بقية أرض فلسطين، فإن واشنطن ستبارك ذلك فعلياً، حتى ولو اعترضت عليه لفظياً.فبالأمس وافقت على القرار 194 الخاص بحق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى ديارهم التي هجروا منها. واليوم، فإن هاجسها الأساس هو الحفاظ على يهودية دولة إسرائيل، وتجاهر دون مواربة بشطب حق العودة.

واليوم، بينما تبدو إسرائيل الصهيونية، ظاهريا، في أوج قوتها، يتفجر مأزقها التاريخي الذي لا فكاك لها من ارتداداته، وهو مأزق ذاتي – داخلي، تصنعه الصهيونية بيديها. ذلك أن رحيق حياتها هو العدوان والتوسع، وحرمانها منهما يعني بداية نهايتها المحتومة.وهنا بالذات يبرز الدور المقرر والحاسم لسلاح الصمود، حجر الزاوية، الذي أهمله ويهمله مسؤولو السلطة الفلسطينية. إذ بدل السهر على توزيع أعباء المعركة، لتعزيز صمود السواد الأعظم من الجماهير الفلسطينية الفقيرة والمسحوقة، وهي المنوط بصمودها حسم المعركة النهائية مع الاحتلال، فإن همّ السلطة هو تعزيز ثروات وامتيازات قمة الشريحة البيروقراطية السياسية والعسكرية، وهذا ما تؤكده الوقائع والأرقام الخاصة بتفاقم الفوارق الاجتماعية، بشكل صارخ، عما كانت عليه قبل مجيء السلطة، واتساع مساحة الذين يعيشون تحت خط الفقر بشكل مثير للقلق، فهل من مجال لتدارك هذه السياسة الخرقاء.

العدد 1105 - 01/5/2024