عودة حلب إلى حضن الدولة السورية.. بداية قيامة جديدة

إعلان الجيش العربي السوري مؤخراً عن استعادة مدينة حلب من أيدي المجموعات الإرهابية، أعاد الروح للاقتصاد السوري، وإن كان الحديث هنا مجازياً. كما عوّل الكثير من خبراء الاقتصاد على هذا الحدث، لأنهم يعتبرون حلب (دينامو) الاقتصاد السوري، بصناعييها، وتجارها، وأسواقها ومستثمريها، ولدورها المحوري في عجلة الاقتصاد السوري.

ومما لاشك فيه أن الحرب أبطأت خلال سنواتها الخمس، عجلة النمو الاقتصادي في البلاد، بسبب التخريب والنهب الممنهجين، وبتمويل من قوى خارجية، كان وما يزال هدفها تحطيم إحدى أكبر ركائز الاقتصاد السوري. فعملوا منذ بداية الأزمة جاهدين بكل قواهم لاحتلال حلب، أم الصناعات السورية، ومهد التجارة في الشرق (فيها أقدم غرفة للتجارة في منطقة الشرق الأوسط والوطن العربي برمته،(غرفة تجارة حلب- منذ عام 1885).

فأين تكمن أهمية حلب الاقتصادية فعلياً؟

في هذا الإطار، وحول الأهمية الكبرى لمدينة حلب في الحياة الاقتصادية السورية يقول الخبير الاقتصادي – عضو جمعية العلوم الاقتصادية ومدير تحرير صحيفة (النور) السورية بشار المنيّر، لـ(الإعمار والاقتصاد): (تتميز حلب بتنوع نشاطها الاقتصادي نظراً لتنوع الموارد المتاحة، إذ يمارس سكانها مختلف الأنشطة الزراعية والصناعية، وأعمال البناء والتشييد فضلاً عن النقل والتجارة والخدمات، وهي بوابة التصدير إلى أوربا عبر البر، إلاّ أن النشاط الأبرز هو الصناعة، والصناعة التحويلية).

تضم حلب 38 ألف منشأة صناعية وحرفية موزعة على 15 تجمعاً صناعياً، وتساهم بنحو 42% من الناتج المحلي الإجمالي، وتصدّر ما نسبته 50% من مجمل الصادرات السورية.

يردف المنيّر قائلاً: (لقد تعرضت حلب لتداعيات الأزمة السورية والحصار الاقتصادي ثم الغزو الإرهابي، وتسبب ذلك في تدمير المناطق الصناعية وحرق المنشآت، إضافة إلى سرقة معظم وسائل إنتاج المصانع، وتقدر خسائر حلب بمئات المليارات من الليرات السورية).

أما الباحث الاقتصادي عمار بطرس، وهو مغترب سوري مقيم في برلين فقد قال في السياق ذاته في حديث مع (الإعمار والاقتصاد):

شكّلت حلب قبل الحرب القوة الكبرى وعاصمة سورية الاقتصادية، فبلغ حجم الاستثمار في المدينة الصناعية 166 مليار ليرة وقدّرت صادراتها بـ 452 مليون دولار عام 2011 فضلاً عن أنها وظّفت 50% من حجم العمالة السورية، فضلاً عن احتضانها لمنشآت سياحية وعشرات المواقع الأثرية تشمل 107 فنادق و21 مصرفاً.

وبما أن حلب هي الشريان الحيوي للاقتصاد السوري، يشدد بطرس على أن تدميرها كان أمراً مخططاً له بامتياز. وفي السياق ذاته يرى الصحافي والباحث الاقتصادي هيثم يحيى محمد في حديث لــ (الإعمار والاقتصاد) أنه:

(بعيداً من الدخول بلغة الأرقام نستطيع القول بكل تأكيد إن حلب كانت قوة صناعية واقتصادية كبيرة، ومن خلال مقومات عديدة كانت تمتلكها، شكّلت الرافعة الاقتصادية لسورية على مدى عدة عقود. من ثم سمّيت في ضوء ما تقدم العاصمة الثانية لسورية أو العاصمة الاقتصادية من خلال منشآتها الكبيرة وإنتاجها الصناعي الضخم وتصديرها للخارج، وفرص العمل التي تؤمنها لأبناء حلب بشكل خاص وللسوريين بشكل عام من خلال المناطق الحرفية والصناعية المرتبطة بها. وقد جاءت الحرب الإرهابية القذرة بدعم من أعداء المشروع القومي وأعداء محور المقاومة لتسرق الكثير من المعامل والمنشآت ولتدمّر معظم ما تبقى ولتهجّر نسبة كبيرة من الكوادر والأيدي الماهرة إلى خارج حلب وخارج سورية).

قصة صمود حقيقي

إضافة إلى مكانتها في الصناعات النسيجية والصناعات التقليدية: الألبسة، الصابون، الحرير الطبيعي، الذهب، المواد الغذائية وغيرها، تتوسط حلب مناطق الإنتاج الزراعي في الجزيرة ومرافئ التصدير البحري والمنافذ الحدودية البرية إلى دول أوربا الشرقية والغربية.

ولا يختلف اثنان، على أهمية القطاع السياحي الناشط جداً في المدينة والذي يشكِّلُ مورداً اقتصادياً هاماً، إلى أن جاءت الحرب، ففعلت بسنواتها الخمس فعلها السلبي في عصب الاقتصاد السوري، رغم أنها لم تستطع قطعه، فحوّلت حلب من قلب الاقتصاد السوري، والدجاجة التي تبيض ذهباً، إلى صحراء تفتقر إلى كل مقومات الحياة، بعد أن أدخلت إليها الفصائل المسلحة التي عملت على تفكيك أكثر من 1300 مصنع بين صغير وكبير، ونقلها من حلب إلى غازي عنتاب (يؤكد فارس الشهابي، رئيس اتحاد غرف الصناعة، أن ما قيمته 150 مليون دولار تمرر يومياً إلى تركيا، من البضائع المنهوبة، من قمح وقطن ونفط، ومنتجات صناعية وآثار)، وأحرقوا مئات آلاف الهكتارات الزراعية (في عام 2011 كان القطاع الزراعي في حلب يشكل ما نسبته 14 بالمئة تقريباً بالنسبة للناتج الزراعي الكلي في سورية، ويعمل فيه نحو 15 بالمئة من الأيدي العاملة في المحافظة)، وباعوا المحاصيل بأثمان رخيصة بعد أن نهبوها من المزارعين في السهل الحلبي الواسع، ودمروا جميع المؤسسات الحكومية (مشافٍ، مدارس، حقول النفط وغيرها)، فحولوها إلى (مدينة منكوبة) تنهش فيها الفصائل الإرهابية كل ما يرمز للحياة.

رغم التنكيل والتهويل، صمدت حلب وما زالت على قيد الحياة، تتنفس صناعات تحويلية من خلال ما تبقى من مصانع، فما هي أسباب هذا الصمود؟

يُسند بطرس هذا الصمود إلى أسباب داخلية وخارجية يلخّصها قائلاً:

(الحرب القذرة التي شنت من قبل قوى الشر وأدواتها العثمانيين الجدد والوهابية العفنة أدت إلى دمار كبير في الاقتصاد السوري، ولكنها لم تستطيع تدمير الإنسان السوري. فقدّرت الخسائر المادية بـ 255 مليار دولار بلغت حصة حلب منها 65 مليار دولار..

وبينما نوّه بطرس بصمود المواطن السوري، متحدثاً عن حالة النزيف المستمر في الاقتصاد السوري التي تعتبر حلب الأكثر تضرراً منها، إلا انه أشار في المقابل إلى عملية تأخّر الانهيار التام للاقتصاد التي كانت مرهونة بعوامل داخلية وخارجية أهمها:  (سيطرة الدولة على دمشق والمناطق الساحلية التي لاتزال تحتفظ بقدرات اقتصادية فضلاً عن سيطرتها على المنافذ البحرية، الأمر الذي سهّل عملية التبادل التجاري البحري مع العالم. إضافة إلى ارتفاع الضرائب والرسوم ورفع أسعار الخدمات من كهرباء وماء واتصالات، فضلاً عن التبادل التجاري مع المناطق المحتلة (نفط – حبوب) ورفع أسعار المازوت والغاز والحبوب. هذا داخلياً، أما خارجياً، فالفضل يعود إلى استمرار المساعدات الاقتصادية والعسكرية الإيرانية التي تقدر بـ 6 مليارات دولار سنوياً، وكذلك المساعدات الروسية الكبيرة ومنها العام الماضي فقد منحت سورية 100 ألف طن قمح ومساعدات مالية عسكرية كبيرة، إضافة إلى مساعدات من بلدان صديقة للدولة السورية مثل الصين، كوريا وفنزويلا وغيرها، فضلاً عن أهمية الحدود المفتوحة مع العراق التي شكّلت عامل قوة إضافي).

وكما فعل بطرس، نوّه محمد بصمود المواطن السوري مشيراً إلى أن أبرز عامل لصمود الاقتصاد السوري هو: (الإنسان السوري المقاوم وصاحب الإرادة القوية , والقطاع العام القوي فضلاً عن التنمية الكبيرة التي شهدتها سورية خلال مسيرة التطوير بقيادة الرئيس بشار الأسد. وكميات القطع الأجنبي الكبيرة التي كانت في البنك المركزي في بداية الحرب، واستمرار الإنتاج الزراعي وغيره ولو بشكل جزئي خلال سنوات الحرب، واتخاذ بعض الإجراءات التقشفية، المتعلقة بالنفقات غير الضرورية جداً.. ودعم حلفاء سورية خاصة إيران وروسيا).

جاء تحرير حلب، بمثابة الشعرة التي قصمت ظهر بعير الإرهاب ومموليه ممن أرادوا تدمير البنى التحتية في الدولة السورية، وإحداث شلل في عصب الاقتصاد السوري، فنهبوا مدينة حلب، وتحديداً مدينة الشيخ نجار الصناعية (كان الهدف من إنشائها استقطاب ستة آلاف شركة، بدأ يعمل منها 1250 قبل الحرب. أهمها الصناعات النسيجية، الغذائية، والكيميائية والصناعات الصيدلانية. ووفرت المدينة فرص عمل لأكثر من أربعين ألف شخص) كما نهبوا وخربوا منطقة العرقوب الصناعية (تعد من أقدم المناطق الصناعية وتضم صناعات مختلفة نحو خمسون بالمئة منها نسيجية (وقد بلغ عدد هذه المعامل قبل الأزمة 2430 منشأة كانت تسهم في‏ تشغيل أكثر من 80 ألف عامل ‏).

تحرير حلب دليل على فشل سياسة أردوغان تجاه سورية، إذ أثرت سلباً على التجار الأتراك الذين كانوا يؤسسون لمستقبل تجاري زاهر مع الجانب السوري يصل ذروته في عام 2015 (وصلت أرقام التبادل التجاري بين سورية وتركيا، إلى 1.8 مليار دولار، مع توقعات كانت شبه مؤكدة بأن تتجاوز حاجز الملياري ليرة سورية، وذلك بزيادة بلغت 600 بالمئة عما كانت عليه في عام 2000 وكان هناك طموح لرفعه إلى نحو سبعة مليارات خلال السنوات الخمس التالية بحسب ماصرح رئيس الوزراء السوري آنذاك محمد ناجي العطري)، كما أضرت تلك السياسة بالمستثمرين الصناعيين الأتراك مثل غيرهم، الذين زادت عدد مشاريعهم الاستثمارية في سورية خلال سنوات ما قبل الحرب، أي، منذ بداية عام 2000 حتى منتصف عام 2008، بنحو مئة بالمئة (تقول بيانات غرفة تجارة حلب للعام 2010، إنه في المدينة الصناعية بحلب، شكل المستثمرون الأتراك وحدهم نحو 40 بالمئة من المستثمرين العرب والأجانب)، وخسر هؤلاء المستثمرون حقولاً غنية بالمواد الأولية اللازمة للتصنيع، مثل القطن والحبوب بجميع أنواعها.إضافة إلى خسارتهم الأيدي العاملة الماهرة والرخيصة مقارنة بالدول المجاورة والتي يمكن أن تكون عاملاً مهماً من عوامل تخفيض التكلفة الإنتاجية عند المستثمر التركي، عدا أنها خسرت أسواقاً كبيرة ومستهلكاً مميزاً.

خطوة إلى الأمام خطوتان إلى الوراء؟

إلى ذلك يجتهد الكثيرون من داخل البلاد وخارجها، للتخفيف من العواقب الكارثية للحرب على سورية، وما سيترتب عن تدمير حلب ومن ثم عودتها إلى حضن الدولة السورية، ويسعون إلى التخفيف من حجم الأزمة الاقتصادية التي ستخلفها هذه الحرب، متجاهلين الأسباب الاقتصادية لكل ما حدث في سورية، داعين إلى تبني سياسات نخبوية- كما يقول المنيّر شارحاً وجهة نظره لـ (الإعمار والاقتصاد) قائلاً: (ونحن نستعد لجولة أخرى من الحوار السوري – السوري، نذكّر بضرورة تجنب المتحاورين لخطرين اثنين:

الأول: اختزال الأزمة السورية بمشهدها السياسي، والتغطية على الأسباب الاقتصادية والاجتماعية، ما يؤدي إلى ترك جوهر النهج الاقتصادي في المرحلة المقبلة رهينة لتسويات سياسية، قد تأخذه بعيداً عن تحقيق مطالب جماهير الشعب السوري.

الثاني: تبني سياسات اقتصادية انفتاحية، ريعية، نخبوية بالاستناد إلى آليات اقتصاد السوق الحر، ومنسجمة مع النماذج التي روجت لها المؤسسات الدولية، وخاصة برامج التثبيت الهيكلي والتكييف الاقتصادي، أو ما اصطلح على تسميته (توافق واشنطن) بهدف (تسهيل إعادة الإعمار واختصار الزمن)، ويجري التسويق لها من خلال أجندة إعادة إعمار سورية التي وضعتها (الإسكوا) بهدف الحصول على المنح والقروض والمساعدات من الدول الرأسمالية والخليجية، والمؤسسات الاقتصادية والمالية الدولية، مقابل تكريس اقتصاد السوق الحر، والدخول في قوائم أصدقاء المؤسسات الدولية التابعة للإمبريالية العالمية. وكما تسعى جماهير الشعب السوري إلى التغيير السلمي باتجاه نظام سياسي ديموقراطي علماني، تطالب في الوقت ذاته بنهج اقتصادي يحقق لها متطلبات الحياة الكريمة، في ظل تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة تعتمد على الذات، وتقودها الدولة بمشاركة القطاع الخاص المنتج والرساميل الوطنية، وجميع منظمات المجتمع المدني في البلاد).

هناك أمل؟

وفي مواجهة كل هذه الوقاحة الاستعمارية، تحدى الحلبيون الفقراء الجوع والعطش وانقطاع الكهرباء وتجار الأزمة وأوجاع الحرب، وبقوا صامدين، كما يتحين الكثير من التجار العودة إلى العرقوب والشيخ نجار ليواصلوا صناعة الحياة في عصب الاقتصاد السوري… حلب.

الأمل بحسب بطرس دوماً موجود، وعودة حلب هي (إنعاش لنبض الاقتصاد وإحياء له، وذلك بعودة أهل حلب المهجرين وعودة الخبرات ورؤوس الأموال الكبيرة المهاجرة وإعادة بناء حلب وتشغيل المعامل وعودة الإنتاج تتطلب سنوات طويلة جداً وكله بحاجة إلى دعم داخلي ودولي كبير جداً من الحلفاء والمغتربين، وطبعاً حلب وسورية لا تموت).

أما من وجهة نظر محمد فقد اعتبر أنه: بفضل المقومات العديدة والعوامل التي ذكرناها، وبفضل الرؤية الصائبة للسيد الرئيس وبفضل القطاعين العام والخاص أتوقع أن تنجح سورية والدول الحليفة لها بسرعة في إعادة إعمار ما دمرته الحرب وفي إعادة الاقتصاد إلى ما كان عليه قبلها وأفضل، وقد أكد لي العديد من الصناعيين والاقتصاديين وأصحاب رؤوس الأموال ذلك، وقالوا إن رؤوس أموال ضخمة ستعود إلى سورية من أبنائها المغتربين فور توقف الحرب والانتصار على الإرهاب وحتى قبل إعلان النصر النهائي فالنصر قادم عاجلاً أو آجلاً).

تعتبر عملية تحرير حلب خطوة مهمة نحو إعادة النبض إلى قلب الحياة الاقتصادية السورية، كما أنها تعتبر ضربة قوية ومؤلمة للسياسة التي ينتهجها السلطان التركي، وحلفائه من نواطير الكاز إلى دول الاتحاد الأوربي وصولاً إلى الولايات المتحدة الأمريكية متزعمة الاستعمار العالمي الجديد، فهل ستكون عملية تحرير حلب بمثابة بداية قيامة سورية؟

روسيا الآن..موقع الإعمار والاقتصاد..

العدد 1107 - 22/5/2024