شركة الحرير الطبيعي في الدريكيش..هل ستعود إلى الحياة؟!

لاشك أن ما تحتفظ به ذاكرتي حتى الآن من مرحلة الطفولة في قريتي التي كانت تشتهر بشجرة التوت وتربية دودة الحرير هو صورة جارنا وهو يتجول بيننا ونحن نجمع شرانق القز أملاً في قطعة نمورة أو مبلغ لم يعد الآن له أي قيمة. يومذاك كان معظم الناس يهتمون بتربية دودة الحرير ويعلقون الآمال على الموسم. ومما لاشك فيه أن تلك المهنة – إن جاز التعبير- كانت أحد أهم موارد دخل الأسرة الريفية السورية وكانت تشكل دعماً حقيقياً ورافداً للاقتصاد السوري.

مع تتالي السنين انخفض عدد أشجار التوت انخفاضاً ملحوظاً، وكذلك عدد مربي دودة الحرير انخفض تدريجياً حتى شارفت هذه المهنة على الانقراض إلى أن وصلنا إلى ما نحن عليه الآن، إذ أصبحت شجرة التوت كالعملة النادرة خصوصاً في ساحلنا بعد أن قام عدد كبير من المزارعين بقطع أشجار التوت، وقد بلغ عدد تلك الأشجار المقطوعة مثلاً لدى السيد أبو نوّار في قرية رجام الجرد بحدود  2000 شجرة في عام 2007 فهل هذا معقول؟!.تعالوا معنا لنبحث في هذا الريبورتاج مع أصحاب المهنة عن أهم الأسباب والمعوقات التي أدت إلى ذلك:

تحدث السيد  أبو علي، وهو ممّن كان يربي دودة الحرير عن أهم أسباب تراجع هذه المهنة فقال: هناك عدة أسباب لتقهقر هذه المهنة وتراجعها، منها ما يعود للمواطن، ومنها ما يعود للدولة، ومنها ما يعود للواقع الاجتماعي، فالمربي يحتاج إلى مكان مناسب للتربية وقديماً كان الناس معتادين على الجلوس والنوم في البيوت الطينية القديمة، وكانت تلك البيوت توفر للدودة الجو المناسب، أما الآن فلم يعد أحد يسكن تلك البيوت أضف إلى ذلك انخراط عدد كبير من الشباب في الوظائف وهذا ما قصدته بالعامل الذي يتحمل المواطن المسؤولية عنه، وكلنا يتذكّر حال الوظائف ما قبل الثمانينيات، إذ كان الجميع يبحث عن مصدر للرزق مهما كان نوعه، أمّا عندما فتحت الدولة باب الوظائف فقد قلّ عدد المهتمين بتلك المهنة إذ بات لديهم مصدر (محترم) للعيش وأقصد هنا الراتب..

أضف إلى ذلك البيوت الإسمنتية التي أخذت بالتمدد على حساب البيوت الطينية، فلم يعد هناك المكان المناسب لعدد كبير من مربي دودة الحرير.وهناك سبب آخر مهم أيضاً هو توجه الناس لزراعة أشجار الزيتون والتفاح بعد أن بدأت تظهر المنغّصات من قبل لجان التسليم.. أعتقد أن المسؤولين عن هذا الموضوع في الحكومات المتعاقبة هم من يتحملون المسؤولية عن انحسار تربية دودة الحرير لأنهم لم يشجعوا المزارع بل على العكس وضعوا العصي في العجلات، كما يقال!!

أمّا السيد عبد اللطيف فتحدث إلينا بكل حرقة وأسى وعتب كبير على المسؤولين في الحكومات الماضية والحكومة الحالية لأنهم لم يكونوا صادقين مع مربي دودة الحرير وساهموا عن قصد بانحسار هذه المهنة. لقد كانوا كالمافيات الكبيرة يسعون لخدمة مصالحهم الشخصية. في البداية هناك مشكلة في التفقيس فالدود يأتينا منه ما هو في الطور الأول ومنه ما هو في الطور الثالث فهل هذا معقول؟! إضافة إلى ذلك المربي مُهان عندما يستلم الدودة في طورها الأول، وذليل عندما يسلّم الشرانق في نهاية الموسم، واللجان المختصة بالاستلام تعمل بمزاجية قاتلة، وأنا أتذكّر أنني في أحد الأعوام قمت بإتلاف محصولي بالكامل.

أنا الآن أقوم بقطع أشجار التوت وأزرع محلها أي شيء آخر.. لقد أوصلونا إلى حالة من اليأس بسبب الكذب الدائم والتهرب الدائم.. نحن نعتاش على الموسم فإذا كان المسلّم يكذب ويرتشي والذي يستلم المحصول يكذب ويتلاعب في التصنيف والوزن ويرتشي فكيف سيتم تشجيع هذه المهنة؟!.هذا العام كان بمثابة الشعرة التي قصمت ظهر البعير، فأنا أصبحت أتسوّل من يشتري مني محصولي إلى أن هداني الله إلى شخص من قرية بيت الحج معلا، ولكن كما أخبرني لم يتمكن حتى الآن من بيع ما لديه من شرانق !. أين الدولة؟ وأين الوزير المختص؟ وأين مدير الشركة السابق المدعو سهيل سعيد الذي جعلنا نكفر بتربية دودة الحرير؟!.هل هكذا يُدعم المزارع؟!. أعتقد أنهم يكذبون في نواياهم!!. أقوم الآن باقتلاع أشجار التوت وأقسم لك أنها تعادل قطع ساقي، ولكن – ما باليد حيلة – كما يقولون !!

السيد أبو عيسى تحدث عن الأهمية التي كانت تحتلها دودة الحرير في حياة المواطن الريفي، فقد كان المحصول يغطي كل الديون التي تترتب على الأسرة، لكن هناك بعض المسائل التي أدت إلى تراجع هذه المهنة بشكل خطير لدرجة أنه من الصعب عليك أن تصادف هذه الأيام من يقوم بتربية دودة الحرير. أعتقد أن الدولة تتحمل مسؤولية هذا التراجع ولكن بشكل نسبي، فيما يتحمل مدير شركة الحرير السابق المدعو سهيل سعيد القسم الأكبر، فقد كانت المعاناة معه خصوصاً لجهة تصنيف الشرانق، وأتذكّر أننا كنّا نلعن أنفسنا إن عدنا إلى تربية دودة الحرير بسبب ذلك المدير وقسم من الموظفين التابعين له !

في مركز تربية وإنتاج دودة الحرير في قرية حاموش رسلان فوجئت في البداية بالنظافة والترتيب والاعتناء بالأرض المزروعة بغراس التوت وبعض المزروعات الصيفية التي تؤمن للعاملين في المركز حاجتهم من الخضار لأيام المناوبة والحراسة. فقد أكد لي المهندس عباس محمد يونس أنهم حريصون على استمرار مهنة تربية دودة الحرير، وأن الدولة قد دعمت هذه المهنة لمدة خمس سنوات متمنياً أن يستمر الدعم، وعبّر عن امتعاضه من بعض الممارسات التي كانت سائدة في الشركة والتي أدت إلى نفور المربين من طريقة التصنيف التي تحمل الكثير من الكيدية والغبن إضافة إلى ثبات السعر لسنوات طويلة.

وأوضح المهندس عباس أنهم يقومون باستلام البيوض وتفقيسها وتأمين الشروط المناسبة لذلك وبعد الطور الأول والثاني والثالث يقومون بتسليمها للمربي الذي يستمر في تربيتها في الطور الرابع والخامس حتى تصبح شرنقة. مادام المربي بخير وسعيد بعمله – يؤكد المهندس عباس – فلا يوجد أي عائق أمام استمرار المهنة، ولكن يجب على المعنيين النظر بعين الشفقة والرحمة كي لا يضيع جهد المربي وبالتالي يزداد نفوره من تربية دودة الحرير.

كنت قد عرّجت على ما يسمى شركة الحرير الطبيعي في الدريكيش وكانت الساعة بحدود الواحدة ظهر السبت ولم أجد في المعمل (المترهّل) أي مظهر من مظاهر الحياة لولا أنه تحول إلى مركز للهلال الاحمر ودخلت وتجولت واطلعت على الآلات المهترئة والغرف التي يعشعش العنكبوت والجرذان فيها، بينما تتناثر على الأرض في زوايا المعمل أسطوانات الإطفاء المهترئة التي فقدت صلاحيتها منذ عام 2008 !!.خرجت بعد أن قرأت الفاتحة على أطلال الشركة وتساءلت بكثير من القلق والخوف عن حال مؤسساتنا لجهة الحراسة والصيانة الدورية وعن المبالغ الطائلة التي تدفعها الدولة لعدد من العمال والموظفين والحرّاس الذين تم تعيينهم دون أن يكون هناك من يراقبهم بعد أن فقدوا أي إحساس بالمسؤولية !!

بعد أن أنهيت الجولة على عدد من القرى التي كانت تهتم بتربية دودة الحرير والتي لم يعد أي أثر في بعضها لمظاهر شجرة التوت، قررت أن أعود إلى الشركة على أمل أن يكون أحد الجيران قد اتصل بأي شخص له علاقة بالحراسة وبالفعل وجدت السيد سلمان عياش حيدر الذي جاء بعد أن شاهدنا، وبعد جدال طويل وعقيم عن حالة التسيب وفي معرض رد السيد سلمان على سؤالي حول واقع الشركة وشكوى مربي الدودة أكد أن الدودة كشجرة التفاح فمن المستحيل أن تصنّف جميع ثمارها اكسترا أو نوع أول كذلك الحال بالنسبة لدودة الحرير إذ يوجد في اليابان تسعة أصناف للشرانق، لكن الشركة هنا اكتفت بتصنيف الشرانق وفق ثلاثة أنواع: شرانق صالحة للحل الآلي، وهناك غير الصالحة للحل الآلي وما يسمى (البغيلة).

في حال كان الموسم جيداً – يقول السيد سلمان حيدر- فإن نسبة الشرانق غير الصالحة للحل الآلي حوالي (7%) ونسبة البغيلة بحدود (5 0/0) وباختلاف المربين والظروف المناخية المتعلقة بكل منطقة ينتج شرانق غير صالحة للحل وعلى كل حال فأعتقد أن السعر الثابت لفترة طويلة وهو بحدود (210 – 225 ليرة للكيلو الواحد) قد أثّر سلباً على مزاولة المهنة. أما فيما يتعلق بمزاجية اللجان فأكد أن المربي يسعى جاهداً لتصنيف كامل محصوله من النوع الأول وهذا غير ممكن.

إذا كانت الشركة متوقفة عن العمل منذ عام 2008 فلماذا لا يجري تحويل الأبنية في حرم الشركة إلى قطاع منتج حتى ولو كان لأكياس الورق أو المحارم أو الشيبس وتوزيع العمال البالغ عددهم 26 عاملاً وعاملة إلى شركات ومؤسسات منتجة بدلاً من أن يتعفنوا في النوم والتسيّب والهروب.. وأشياء أخرى؟!!.سؤال أضعه برسم المسؤول عن الشركة سابقاً ولاحقاً آملاً ألاّ يكون قد نسي أن لديه في الدريكيش شركة تسمى شركة الحرير الطبيعي على قيودها عدد غير قليل من العاطلين عن الإنتاج.. فهل من مُجيب خصوصاً في هذه الظروف؟!!

العدد 1105 - 01/5/2024