مخاطر انتشار الفوضى وسقوط المحظورات؟

مؤخراً تحدث وزير الخارجية الفرنسي عن التحولات الدراماتيكية الهائلة التي تشهدها مناطق مختلفة من العالم، ومنها أوربا، وقال بنوع من المرارة: (إن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي كسر المحظورات بالنسبة للأسس والقواعد التي بني عليها الاتحاد الأوربي، ومن ثم فإنه من غير المستبعد أن يعرف هذا الاتحاد نهاية مأساوية حزينة، إذا ما قررت دول أخرى أن تحذو حذو بريطانيا من أجل الدفاع عن مصالحها القومية الضيقة).

وأشار قائد الناتو في أوربا إلى أن القارة العجوز أصبحت أحد أخطر أماكن العالم بعد أفغانستان والعراق وسورية، وبخاصة بعد الهجوم الإرهابي في قلب لندن، ومن غير المستبعد أن تشهد أوربا مزيداً من المخاطر الأمنية، بعد عودة العناصر المتطرفة من سورية والعراق وليبيا إلى بلدانهم الأصلية في العديد من البلدان الغربية.

إن هذه التصريحات الصادرة عن قادة دوليين كبار، هي تصريحات متشائمة تدل على مدى التحول الخطير الذي بات يشهده العالم الذي تزعمته الولايات المتحدة مع نهاية الحرب الباردة في مطلع تسعينيات القرن الماضي، إذ يلاحظ انتشار غير مسبوق للفوضى وعدم الاستقرار في مناطق عدة من العالم بشكل أصبحت معه لافتة للنظر.

ومن الواضح في كل الأحوال أن هناك من يسعى إلى توظيف ما يسميه الغرب بالإرهاب الإسلامي، من أجل تحقيق عدة أهداف منها: إعادة تشكيل خريطة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وإفراغ المشرق العربي من مسيحييه، وإعادة النظر بالوجود الإسلامي في أوربا ومجموع الدول الغربية.

كل هذا يشير بشكل موضعي وواضح إلى التحول الكبير الذي تشهده الجغرافيا السياسية والاقتصادية نتيجة السياسات التي تنفذها القوى الغربية الكبرى من أجل دعم نفوذها وهمينتها السياسية والاقتصادية على العالم، من خلال إشاعة عدم الاستقرار في الدول الوطنية التي مثلت صمام الأمان بالنسبة للسلم العالمي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وذلك من منطلق أن التطرف الديني الذي يُتّهم الآن بالمسؤولية المباشرة عن انتشار العنف والإرهاب في العالم، وهو بالأساس صناعة غربية بامتياز، بالتنسيق مع السعودية وقطر، جرى تطويره في مخابر ودوائر استخبارات القوى الكبرى، بهدف حسم الصراع بين الشرق والغرب في غمرة احتدام المعارك السرية التي تميزت بها فصول الحرب الباردة مع نهاية الألفية المنصرمة.

إذاً، انطلقت استراتيجية الفوضى من أفغانستان، لتنتقل بعد ذلك إلى المنطقة العربية مع احتلال العراق سنة 2003، وصولاً إلى إفرازات وتداعيات ما يسمى بـ(الربيع العربي) مع بداية سنة 2011، فقد أفضى هذا الحدث إلى فتح أبواب الفوضى على مصراعيها، مع انهيار مؤسسات الدولة في ليبيا وتحول الحدود الليبية مع كل من الجزائر وتونس إلى ساحة مواجهة مفتوحة مع التنظيمات الإرهابية العابرة للحدود.. وقد تواصل مشهد الفوضى العربية مع فتح ساحات جديدة للموت في سورية التي تعيش بسبب هذا الإرهاب التكفيري الأسود أحلك فترات تاريخها المعاصر، وذلك قبل أن ينتقل هذا المشهد إلى سيناء في محاولة من تجار الفوضى الخلاقة العبث باستقرار أكبر دولة عربية، من خلال العمل على نقل مسلسل التفجيرات الإجرامية إلى عاصمة أرض الكنانة في قاهرة المعزّ، وقد اكتمل هذا المسلسل الإجرامي التدميري مع تورط بعض القوى الإقليمية مثل تركيا، والخليجية مثل السعودية وقطر والبحرين في المخطط الهادف إلى النيل من استقرار بعض الدول العربية، خاصة منها المناهضة للسياسة الأمريكية في المنطقة، عبر العمل على ضرب أسس الاستقرار في هذه الدول بهدف توسيع انتشار الفوضى العارمة في الوطن العربي.

ويمكن القول، إن ظاهرة عولمة الفوضى وتوسيع انتشارها مع الأزمات المتتالية في مسار العولمة الاقتصادية والثقافية، استطاعت أن تنشر خلاياها السرطانية في مناطق جديدة من العالم بداية من دول الساحل في إفريقيا، مروراً بشبه الجزيرة الكورية وبحر الصين الجنوبي في أقصى شرق آسيا، وصولاً إلى حدود روسيا مع دول حلف الناتو في أوكرانيا، ولكن الأوضاع انقلبت رأساً على عقب وبشكل مفاجئ، فأصبحت معظم العواصم الأوربية أقل أمناً من عواصم دول الشرق الأوسط، وأدت إلى اتساع دائرة العنف بحيث تحول النشاط الإرهابي إلى ما يشبه الحوادث شبه اليومية والمألوفة.

وبناءً عليه، فإن نشر الفوضى أدى إلى ولادة ما أصبح يوصف بـ(عولمة الخوف) وكان من نتائج ذلك انتشار هذه الحالة الراهنة من الخوف الجماعي التي ترقى في كثير من الأحيان إلى مستوى الفتنة المجتمعية المدمرة، وإلى فتح الأبواب الواسعة أمام دعاة التشدد والتطرف الديني والمذهبي والقومي والعرقي والانعزال الثقافي، وبدأ يسطع من جديد نجم المجموعات العنصرية والإقصائية المتطرفة والرافضة حتى لوجود الآخر، وذلك نتيجة تزايد الأصوات الداعية للانغلاق والتقوقع، ونتيجة استثمار الغرب في الإرهاب بذريعة دعم الحرية، وسعي بعض دول الخليج مثل السعودية وقطر إلى دعم هذا الإرهاب بالمال والسلاح، لنشر المذهب الوهابي التكفيري وإبعاد المخاطر عنهما في الداخل.

بالطبع، كل هذا يحتاج إلى تضافر الجهود المخلصة لمواجهة هذا المد الخطير من الفوضى ونتائجه الكارثية بسبب سقوط المحظورات.

 

 

العدد 1105 - 01/5/2024