كل الطرق تؤدّي إلى موسكو!

اتّسم السلوك الأمريكي، والغربي عموماً، طوال العقود الماضية، بالوعود المتناقضة والكاذبة، والسياسات التي أدخلت شعوب المنطقة في حومةٍ من الذل والاستكانة، وجولاتٍ من التصارع العبثي عديم المعنى والهدف، وهذا كله أدّى إلى اهتزاز مكانة الغرب،
وانكشاف ألاعيبه وخدعه، أمام الشعوب العربية والأوسطية، فهم لم يحاربوا الإرهاب يوماً، بل إنّ تحالفهم المزعوم ضده،
قد جاء لدغدغة المنظمات الإرهابية في سورية والعراق، وإمدادها بأسباب الحياة، أملاً في إطالة الصراع في المنطقة، وزيادةً لاستثماراتهم فيها.

ومنذ اندلاع الأحداث في سورية، كان التكالب الغربي عليها واضحاً؛ إذ أضحى لا همَّ للمسؤولين الغربيين سوى الإدلاء بالتصريحات المؤجِّجة للصراع السوري، ولقد حاولت الدول الغربية، عدة مرات، استصدار قرارات تُمهّد للتدخل العسكري المباشر، إلا أنّ روسيا والصين أحبطتها جميعها في مجلس الأمن الدولي.

بعد ذلك؛ عجّت نشرات الأخبار والبرامج السياسية، في العديد من القنوات العربية وغير العربية تحليلاً ودراسةً للموقف الروسي، لفهم ماهيته وآفاقه في منطقةٍ معقدةٍ كالشرق الأوسط.

وفي ظلِّ انقياد إعلام معظم الدول العربية للسياسة الأمريكية، واستفحال خضوعه لها، حاول الكثير من محللي الدرجة الثالثة، التقليل من أهمية الدور الروسي في السياسة العالمية، مستخدمين في ذلك حججاً لا تليط** إلا بعقول السفهاء، وقرائن لا تلتبس إلا على الجهلاء، فكثيراً ما كنّا نسمع في قنواتهم العبارات التالية:
(إنّ روسيا قادرة على منع الحلول، إلا أنها غير قادرة على فرضها)، (روسيا تراهن على الحصان الخاسر!) … وغيرها، إلا أنّ المواقف الروسية جاءت مخيبةً لآمالهم، وكابحةً لجموحهم الأعمى، ومنسجمةً مع دورها التاريخي والحضاري المعهود.

فلقد حرصت روسيا على تناول الأحداث السورية والأوكرانية، بحكمةٍ وعقلانيةٍ وهدوءٍ، في مقابل لغة التحريض الفجة والرخيصة التي مارسها الغرب وإعلامه، فبالرغم من ضعف إمكانات الإعلام الروسي،
مقارنةً بالإمبراطوريات الإعلامية الغربية، استمرت وسائل الإعلام الروسية بتقديم روايتها الخاصة عن الأحداث في الشرق الأوسط وأوكرانيا؛ وهي روايةٌ مغايرة لما دأب الاعلام الغربي على ترويجه أمام جمهوره،
ولقد زادت هذه اللغة الاعلامية الروسية الصادقة، في مقابل التضليل والتدليس الغربي المقصود، من مصداقية القراءة الروسية للأحداث السياسية، واستقطبت الجمهور الأوربي والأمريكي نفسه.

وهكذا، أصبح العالم أمام عملية تحول كبيرة، بدأنا نشهد بعض فصولها، فالولايات المتحدة الأمريكية تفقد موقعها العالمي شيئاً فشيئاً، وينحسر دورها في منطقة الشرق الأوسط يوماً بعد يوم، تاركةً وراءه فراغاً سياسياً، بدأت روسيا بملئه بهدوءٍ وعفوية، نظراً للمصداقية والحكمة اللتان تبدّتا في سياستها الخارجية.

لذلك نرى انفتاحاً للآفاق أمام روسيا، ليس فقط في سورية وإيران، الحليفتين القديمتين لها، بل في بلدان عربية أخرى، إذ يعتقد الكثير من الباحثين والمحللين بأنّ هذه العودة الروسية المظفّرة ستشمل العديد من البلدان في الساحة الشرق أوسطية وشمال إفريقيا أيضاً، وتؤيد هذا الاستنتاج العديد من الأحداث والتغيرات التي حصلت في الآونة الأخيرة.

فتركيا أدركت الأخطاء الجسيمة التي ارتكبتها في الأزمة السورية، وخاصةً بعد انكشاف المخططات الأمريكية التقسيمية للمنطقة، وعلى الرغم من أن تركيا أسقطت مقاتلة روسية شمال محافظة اللاذقية،
إلا أنّ روسيا بسياستها الحكيمة والهادئة امتصت الهيجان والجنون التركي، واستطاعت تحويلها إلى شريكٍ في حل أزمات المنطقة، بدلاً من مخاصمتها وجعلها عدواً لها، لذلك نرى أن تركيا بدأت بالتوجّه إلى موسكو في معالجة قضاياها.

كما أدركت الدول الخليجية، بعد إمعانٍ طويلٍ في البغي على سورية، وإفسادٍ قلَّ نظيره في أرضِها المقدسة، أنّها خسرت المعركة، وأنّ التحالف الثلاثي الروسي-السوري-الإيراني،
وليس الولايات المتحدة الأمريكية، هو الممسك الحقيقي بالعديد من خيوط اللعبة السياسية في منطقة الشرق الأوسط، لذلك نرى أن الدول الخليجية، ومعهم مصر وليبيا، قد لجأت إلى موسكو، وليس إلى حليفتهم التقليدية واشنطن، لحل الأزمة الأخيرة التي عصفت مع دولة قطر،
إذ شهدت العاصمة الروسية في الأسابيع الماضية حراكاً دبلوماسياً واسعاً، على مستوى السفراء ووزراء خارجية الدول المذكورة آنفاً، لتصبح موسكو معنية بشكلٍ مباشرٍ بالتجاذبات السياسية العربية-الخليجية، وتوفير السبل المناسبة لحلها وتسويتها.

وعلى الرغم من أن حصار قطر اقتصادياً، وعدم تمرير غازها عبر دول الخليج
(السعودية والبحرين والإمارات) سيؤدي إلى تعزيز موقع روسيا في السوق العالمي للغاز، وسيحقق لها مكاسب كبيرة تصل إلى مليارات الدولارات،
إلا أن موسكو عارضت حصار قطر أو تطبيق عقوبات اقتصادية عليها، وأكدت ضرورة حل الخلافات الراهنة مع بعض الدول العربية ببذل المزيد من الجهود السياسية والدبلوماسية.

أما مصر، القوة الإقليمية الأبرز في المنطقة العربية، فلقد شهدت علاقاتها مع روسيا عودةً قويةً منذ عام 2013، وعلى جميع الأصعدة، السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية والسياحية،
وبالرغم من بعض الأحداث، التي عكّرت هذه المسيرة، كحادث سقوط الطائرة الروسية فوق سيناء في شهر تشرين أول من العام ٢٠١٥، إلا أن زخم هذه العلاقات لم يتراجع، بل ما زالت في ارتقاءٍ وتصاعدٍ مستمرين.

إنّ المتابع المنصف للسياسة الروسية في العقد الأخير، لا بد أن يلاحظ أن روسيا لم تلجأ إلى الاستثمار الرخيص لأحداث المنطقة وأزماتها، بل إنّها وقفت ضد سياسات العزل والإقصاء والإملاء وفرض العقوبات، التي انتهجتها الولايات المتحدة الأمريكية باستمرار،
فدائماً ما اصطبغت المقاربة الروسية لملفات المنطقة بصبغةٍ إنسانيةٍ، تليق بها كلاعبٍ كبيرٍ في حفظ الأمن والسلم الدوليين.

وأمام الهدوء والصبر والصلابة الروسية، تبدو الولايات المتحدة الأمريكية، أعظم قوة في العالم، كالولد المراهق الأرعن غير القادر على كبح جماح جنونه وعصبيته، وخير دليل على ذلك هو التخبط الأمريكي المستمر، في الأقوال والأفعال،
والذي أشرنا إلى بعض جوانبه في مقالاتنا السابقة، فعلى ما يبدو أن المسؤولين الأمريكيين لا يدركون أنّ القوة وحدها لا تكفي لإدارة ملفات العالم، بل إنّ القوة تحتاج إلى إدارةٍ حكيمةٍ، قادرةٍ على استثمارها في المكان والزمان المناسبين، وغير ذلك فإنّ هذه القوة قد تقتل صاحبها.

ختاماً … لقد عادت روسيا إلى منطقة الشرق الأوسط بحلةٍ قشيبةٍ، خاليةٍ من العيوب والشوائب، كالاتهام بالإلحاد الذي استثمرته الولايات المتحدة الأمريكية في تحريض الشعوب الإسلامية والعربية عليها، في حقبة الاتحاد السوفيتي،
وبفضل سياستها الحكيمة والمسؤولة، ستغدو، في القريب العاجل، جناحَ الدعوة التي يعتصم بها جميع دول العالم الثالث، وظلَّ الألفة التي يتفيأ في عزِّها جميع المظلومين، إذ يليق بروسيا، أن تلعب هذا الدور الحضاري والتاريخي، المتمثل في إرساء قواعد وأسس النظام العالمي الجديد، القائمة على احترام كرامة الإنسان وحقوق الشعوب

 

هوامش: 

*حومة الشيء: معظمه وأشدّ موضع فيه.

**تليط: تلتصق.

العدد 1104 - 24/4/2024