الهرج السياسي الأمريكي!

 لم يتوقف، في الواقع، مسلسل (التهريج) السياسي الأمريكي يوماً، وقد بدأ مع الرئيس الأمريكي رونالد ريغان في برنامجه أو بالأحرى في فلمه (حرب النجوم) في ثمانينيات القرن الماضي، إذ أطلقت الولايات المتحدة هذا البرنامج لمواجهة الاتحاد السوفييتي السابق،
الذي أدرك خبراؤه بأنه مجرد جملة من الخدع السينمائية لا أكثر، نظراً للصعوبات التقنية الكبيرة والكلفة الباهظة في تنفيذه. والحقيقة بقي هذا البرنامج جزءاً من الفانتازيا الهوليودية، ولم يرَ النور على الإطلاق،
بالرغم من محاولة بعض الباحثين ربط انهيار الاتحاد السوفيتي بهذا البرنامج، إلا أن لانهيار الاتحاد السوفيتي أسباباً موضوعية أخرى، لا يتسع المقام لشرحها.

تحاصر الخيباتُ والانتصاراتُ الولايات المتحدة الأمريكية دبلوماسياً؛ خيباتها السياسية في شرق الأرض وغربها، وفقدانها للقدرة على التأثير في مسار الأحداث في الكثير من المناطق،
وانتصارات حلف المقاومة في منطقة الشرق الأوسط، الأمر الذي جعلها تسلك سلوكاً مضطرباً، تحولت بسببه إلى موضوعٍ للسخرية والتهكم على معظم مواقع التواصل الاجتماعي.

وسنبدأ بسرد وقائع آخر حلقة من حلقات الهرج أو الهمج السياسي الأمريكي، التي كان مسرح أحداثها في الولايات المتحدة نفسها. فقد اقتحمت عناصر مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي القنصلية الروسية في سان فرانسيسكو والممثليات التجارية الروسية في واشنطن، وجرى تكسير الأقفال والأبواب، وبدؤوا بتفتيش المكان، مدّعين وجود مواد متفجرة في هذه الممثليات.

ولقد أجادت السيدة ماريا زاخاروفا، الناطقة باسم وزارة الخارجية الروسية، في وصف السلوك الأمريكي بـ (التهريج)، في تعليقها على هذه الأحداث. وأضافت زاخاروفا، في حديثها للقناة الروسية الأولى في برنامج (مساء الأحد)، واصفةً الثاني من أيلول:
(إنه يومٌ أسودٌ، فريدٌ من نوعه، في تاريخ الدبلوماسية الأمريكية وعمل القوات الخاصة).

يبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية، التي لم تراع اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لعام ،1961 بدأت الدخول في طور (الجنون السياسي)، وهذا يعكس عمق الأزمة السياسية التي تعانيها.
لن نتحدث أكثر مما ذكرنا في الأعلى، فالأحداث تعكس الهمجية الأمريكية بأدقّ صورها، وسأكتفي باستعارة تعليقٍ لأحد الصحفيين الذين كانوا في مكان الحادث في واشنطن، وفقاً لما نقلت وكالة ريا نوفوستي، فقال ساخراً:
(على ما يبدو أنهم يحاولون اكتشاف الممر السري بين الممثليات التجارية والبيت الأبيض)، في إشارة إلى التدخل الروسي المزعوم في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة.

أما في المنطقة العربية، فحلقات الهرج الأمريكي كثيرة ومتعددة، ويتمتع مخرجوها وممثلوها بمواهب نادرةٍ واستثنائيةٍ، إلا أنني سأتناول ثلاثاً منها فقط، ترتبط بالانتصارات التي حققها محور المقاومة على الجماعات الإرهابية في منطقة القلمون.

الحلقة الأولى، ترتبط بممارسات السفير الأمريكي في لبنان، بالضغط على بعض وسائل الإعلام اللبنانية، لعدم تصوير بطولات حزب الله في معارك الجرود، وخاصةً بعد التضامن والالتفاف الشعبيين الكبيرين مع حزب الله،
من مختلف فئات الشعب اللبناني، ما أغاظ العديد من السفارات العربية والأجنبية. ولقد عبّر عن ذلك الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في خطابه الذي سبق التحرير الثاني.

لا تخجل هذه الدول، الداعية إلى حرية التعبير، والتي أثارت الحروب والصراعات في كل مكان بدعوى نشر الديمقراطية والحرية، من الضغط على بعض وسائل الإعلام لإجبارها على تغيير أسلوبها في نقل الأخبار.

أما الحلقة الثانية، فكان مسرح أحداثها في مجلس الأمن الدولي، وترتبط باتخاذ قرار مجلس الأمن 2373 لعام ،2017 المتعلق بالتمديد لقوات الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان(اليونيفيل).
إذ حاولت الولايات المتحدة الأمريكية عرقلة صدور هذا القرار وهددت باستخدام الفيتو، مالم تؤخذ رغباتها بعين الاعتبار، بدعوى أن حزب الله يقوم بتهريب السلاح إلى لبنان استعداداً لحرب مقبلة مع الكيان الصهيوني.

في الواقع، يجري التمديد لهذه القوات سنوياً بشكل آلي منذ عام 2006. ولقد أكّد قائد قوات اليونيفيل، اللواء مايكل بيري، أن هذه القوات تقوم بالمهام الموكلة إليها كما يجب، فقد قال في تموز الماضي:
(على الرغم من التصريحات العالية النبرة مؤخراً، يسرّني أن أبلغكم بأن الوضع العملياتي في المنطقة كان هادئاً، ويمكننا أن نفخر بأن السنوات الإحدى عشرة الماضية شهدت فترة لم يسبق لها مثيل من الهدوء والاستقرار النسبي في منطقة عمليات اليونيفيل).

الحلقة الثالثة والأخيرة، هي منع التحالف الأمريكي لقافلة تنظيم داعش من التحرك شرقاً إلى مناطق سيطرة التنظيم في محافظة دير الزور، بدعوى أن التحالف عازم على القضاء على تنظيم داعش بالكامل، بالرغم من علمهم بوجود الأطفال والنساء ضمن هذه القافلة.

السلوك الأمريكي المتعلق بهذه القافلة مدعاة  للعجب، فهم يريدون القضاء على تنظيم داعش بالكامل، ولكنهم غير مستعدين للاعتراف بفضل حزب الله في القضاء عليه، هذا من جهة، من جهة ثانية، سمحت الولايات المتحدة الأمريكية لعناصر داعش الهاربين من تلعفر العراقية بالعبور إلى مناطقة سيطرة القوات الكردية في سورية، فما عَدَا ممَّا بَدَا؟!

إن المتأمل لهذه الحلقات الثلاث الأخيرة، يجد رابطاً وحيداً بينها وهو (حزب الله)، الذي دأبت الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل وبعض الدول العربية على تصويره بأنه حزب (إرهابي)، إلا أن الانتصارات الكبيرة التي حققها في طرد تنظيمي داعش والنصرة الإرهابيين من منطقة الحدود اللبنانية السورية، جاءت بعكس الصورة التي دأبوا على تسويقها لمواطنيهم،
الأمر الذي سيضعهم في مواقف محرجة أمام الرأي العام. وبالتالي ترمي الولايات المتحدة الأمريكية بهذه المسرحيات العبثية الهزيلة إلى تشويه صورة الحزب والتقليل من أهمية انتصاراته؛ ولكن هيهات منهم الفَلاح في ذلك، فالمقاومة اللبنانية ماضية في خطِّها المعروف ويزداد حضورها وشعبيتها يوماً بعد يوماً.

لا يدرك صانعو القرار في الولايات المتحدة الأمريكية، على ما يبدو، أن العالم قد تغير، وأن عصر الغطرسة قد انتهى، فالعالم أصبح مجموعة من القوى متشابكة المصالح، وهذه القوى لن ترضخ للإرادة الأمريكية أبداً،
وعليهم التكيف مع هذه المتغيرات الجديدة، وتعديل سلوكهم بما يتناسب معها.

 

العدد 1104 - 24/4/2024