حول المسألة الكردية وانعكاساتها!

 يتصدر موضوع انفصال إقليم كردستان العراق الساحة السياسية الآن، لما لهذا الموضوع من انعكاسات كبيرة على منطقة الشرق الأوسط بالكامل، فالأكراد موزعون على أربع دول: سورية والعراق وإيران وتركيا، وستؤدي المساعي الانفصالية إلى خلق صراعات وحروب، قد تمتد إلى عشرات السنين.

قبل الخوض في تفصيل بعض الأفكار المتعلقة بهذه المسألة، لابد من الإشارة إلى ضرورة عدم المبالغة في تقييم دلالات رفع العلم الإسرائيلي في أربيل، بل من الممكن تصنيف هذه الحادثة ضمن (ردات الفعل الغاضبة والاستفزازية)، خاصة بعد اشتعال الحروب الكلامية بين الكرد والقوميات الأخرى، على مواقع التواصل الاجتماعي، بعد تصويت البرلمان الكردستاني على قرار الاستفتاء، فللشعب الكردي مواقف مشرّفة من القضية الفلسطينية، ولكن في الوقت نفسه فإن هذا لا ينفي الاهتمام الكبير للكيان الصهيوني بهذه القضية وتدخله المباشر فيها.

وبعيداً عن لغة الانفعالات والعواطف والتشويه المفهومي الذي يؤدي إلى حجب الحقيقة، فإن هذا المشروع هو أخطر المشاريع على دول المنطقة، بل تزيد خطورته على خطورة الكيان الصهيوني نفسه، ومصدر هذه الخطورة هو أن الأكراد يشكلون جزءاً من النسيج الاجتماعي لشعوب المنطقة، وبالتالي فإن انفصالهم قد يزيد من احتمال تمزّق هذا النسيج والدخول في طور من الصراعات الإثنية والمذهبية لا نهاية له.

أشرنا في أكثر من مناسبة إلى أنه بالرغم من انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من ملف الأزمة السورية، إلا أنها خلّفت وراءها عدة بؤرٍ متوترة، تؤمن لها إعادة التدخل والعبث في شؤون المنطقة، ويعتبر الملف الكردي أهمها على الإطلاق.

كما أنه لم يعد خافياً على أحد الاهتمام المتزايد للكيان الصهيوني بإقامة (الدولة الكردية)، إذ عبّر المسؤولون الصهاينة، وعلى جميع المستويات، عن ذلك في تصريحاتهم المختلفة.

وفي هذا السياق، وعلى الرغم من الموقف الأمريكي المتردد حيال إجراء الاستفتاء في إقليم كردستان العراق، إلا أن العلاقات الأمريكية- الكردية، وفيما بعد الإسرائيلية- الكردية، بدأت تتوطد مباشرة بعد الغزو الأمريكي للعراق عام ،2003 لذلك لا يمكن الفصل بين الأهداف الإسرائيلية والأمريكية في دعم قيام (الدولة الكردية)، فهذه الأهداف متماهية في الكثير من الجوانب.

وعلى هذه الخلفية، نرى أن الحفاظ على أمن الكيان الصهيوني يقع في رأس قائمة الأهداف الصهيو-أمريكية، فلقد أفرزت الأزمة السورية جبهة كبيرة للمقاومة، تمتد من طهران إلى سواحل المتوسط، مروراً بالعراق وسورية ولبنان وفلسطين، ويبدو واضحاً استحالة تفكيك هذه الجبهة، التي أبدت درجة عالية من التماسك والتنسيق في حربها ضد التنظيمات الإرهابية في المنطقة، كما أنها بدأت تحظى بشعبية متزايدة يوماً بعد يوم.

لذلك فإن استنزاف القوى الرئيسية في هذه الجبهة، وخاصة إيران والعراق وسورية، في صراع جانبي جديد، يعتبر من أولويات السياسة الأمريكية والصهونية، وإن تحويل الصراع باتجاه المناطق الكردية يمنح الإمكانية اللازمة لذلك.

ستوفر المناطق الكردية للولايات المتحدة الأمريكية منصة مناسبة للتأثير والعبث بأمن الدول المجاورة، خاصة إيران وروسيا، عبر حوض بحر قزوين والقفقاز، التي تعتبر من المناطق الغنية بالنفط وذات الفسيفساء الديني والإثني المعقد، إذ يدرك الخبراء العسكريون الأمريكيون جيداً أن أي مواجهة عسكرية مباشرة مع روسيا أو إيران ستؤدي إلى نتائج كارثية على الجميع، لذلك فإن تشكيل مثل هذه البؤر المتوترة في خواصر الدول قد يساعدها في تأمين الضغط الأمني والسياسي والإعلامي اللازم لحملها على اتباع سياسات معينة.

وكما ألمحنا في الفقرة السابقة، تعتبر منطقة شرق المتوسط من أغنى المناطق بالمجموعات الدينية والإثنية، فهي الموطن الأول للأديان والحضارات الإنسانية، ومن الأخطار الحقيقية التي قد يتركها هذا المشروع هو إعادة إنتاج الصراعات التاريخية، الدينية والإثنية، التي مرت بها المنطقة قبل عصر الدولة الحديثة، إذ لا يخفى على أحد الدور الذي يلعبه التاريخ في تكوين الوعي عند الإنسان، إضافة إلى أن (أعداء المنطقة) يعلمون جيداً أن (تحريض الناس ضدّ، هو أسهل بكثير من تحريضهم مع)، لذلك سيؤدي دخول المكونات الاجتماعية في أتون الصراعات المذهبية والعرقية إلى نتائج كارثية على كل الأصعدة.

من الناحية القانونية، يتطلب نشوء دولة ما على بقعة معينة من الأرض الحصول على السيادة أولاً، إذ لا تستطيع الأمم المتحدة الاعتراف إلا بالدول ذات السيادة، والحصول على السيادة في حالة إقليم كردستان العراق لا يتحقق إلا بتنازل العراق عن سيادته على هذا الإقليم.

لذلك، سيؤدي إعلان استقلال الإقليم عن الدولة الأم إلى نشوء دولة غير معترف بها، وسيخضع الاعتراف بها إلى المزاج السياسي الدولي في منطقة شديدة الحساسية تتصادم فيها مصالح عدة دول كبرى، الأمر الذي قد يؤدي إلى الدخول في صراع دموي مرير سيكون وقوده الشعب الكردي بالدرجة الأولى، خاصة أن جميع الدول المحيطة بالمناطق الكردية غير مستعدة للتنازل عن جزء من سيادتها على أراضيها، وقد تتحول سيادة الإقليم إلى ورقة ضغط تتداولها الدول الغربية في بازاراتها السياسية مع دول المنطقة وروسيا والصين.

هذه هي حال شعوب منطقة الشرق الأوسط مع الولايات المتحدة وربيبها الكيان الصهيوني الإرهابي، اللذين أطلقا الشرارة الأولى للصراع، الذي قد يتحول إلى حريق هائل يلتهم الجميع. لذلك، فعلى النخب الكردية، الفكرية والدينية والسياسية، بالدرجة الأولى، والنخب العربية والفارسية والتركية وغيرها من المعنيين بهذه القضية، التيقظ لهذه الأخطار الكبيرة المحدقة بالمنطقة، والتداعي إلى الحوار البنّاء وعلى مختلف المستويات لتدارك هذه المحرقة الجديدة، التي ستؤدي إلى استنزاف طاقات شعوب المنطقة في صراع، لا ناقة ولا جمل لأحد فيه، فالأكراد هم جزء من الشعوب الأصيلة في هذه المنطقة، ويجب أن يكون إحلال الأمن والسلام معهم على رأس أولويات جميع دول المنطقة.

العدد 1104 - 24/4/2024