قراءة واقعية لما يجري في بورما

في الآونة الأخيرة انصبت تصريحات ساسة الغرب وتقارير إعلامية على أعمال العنف التي يشهدها إقليم (راخين) غربي دولة ميانمار المعروفة باسمها القديم (بورما)، في سياق محاولات محمومة لإبراز صورة معينة عن طبيعة الصراع الدائر هناك.

بداية، تحظى ميانمار الواقعة جنوب شرق آسيا بموقع جغرافي حساس جعلها عرضة للتدخلات الأجنبية السياسية والعسكرية منذ انفصالها عن مستعمرة الهند إبان الاحتلال البريطاني عام 1937 وحتى اليوم، إذ يتمتع نصفها الشمالي بحدود واسعة مع كل من الصين شرقاً والهند غرباً، وتعتبر أراضيها منفذاً احتياطياً للصين نحو المحيط الهندي، في حال إغلاق مضيق (ملقا) بين ماليزيا والهند.

تعمل معظم وسائل الإعلام الغربية ومعها بعض وسائل الإعلام العربية المرتبطة باتجاه ترسيخ صورة واحدة للعنف في بورما، بمعنى أن النظام والجيش المركزي البورمي يرتكبان مجازر بحق أقلية (الروهينغا) المسلمة، وهي تصوره بأنه تطهير عرقي بحق مسلمي الروهينغا، على خلفية عنصرية.

لا شك في أن تجاوزات ترتكبها الحكومة البورمية خلال العمليات القتالية الجارية في البلاد، إلا أن حملة تزوير وتضليل واسعة تجري بشكل حثيث، استُخدمت خلالها صورة لضحايا الزلازل والفيضانات والكوارث الطبيعية وغير ذلك بما يشوه ما يجري هناك.

ما نود التركيز عليه وإبرازه هو أن الغرب، بتعاطفه وتضامنه مع ضحايا بورما، يريد توظيف هذه المشاعر تحديداً من أجل إخفاء طبيعة المعركة الاستراتيجية التي يخوضها بكل أدواته ضد صعود الصين الاقتصادي، وضد تفاهمها مع روسيا الاتحادية على معادلات جديدة بدأت تغير العالم، وتحد من الهيمنة الأمريكية عليه والانفراد بالقرار الدولي، ذلك أن الغرب يخطط ويسعى لتطويق خصومه الاستراتيجيين في الفضاء الروسي، وتحديداً في تخوم الخصمين الروسي والصيني، وبالتالي فإن ما يجري في بورما (ميانمار) وفي شبه الجزيرة الكورية يأتي في سياق تطويق الصين وحلفائها، بعدد من بؤر التوتر الجاهزة للاشتعال تحت ستار صراعات ثانوية (قومية ودينية وعرقية وإثنية وغيرها).

ولكن هذا لا يمنع من القول إن عدداً كبيراً من أقلية الروهينغا المسلمة قد حُرمت من جزء كبير من حقوقها، بدعم بريطاني، وذلك بسحب الجنسية منهم في عام 1974 وعام 1984، الأمر الذي أدى إلى تأجيج الصراع الديني بين بوذيي بورما ومسلمي الروهينغا، في ظل وعود بريطانيا بدعم انفصال الروهينغا.

وفي سياق متصل، تسعى أمريكا وحلفاؤها إلى تدويل بحر الصين وأزماته، عبر تصعيد الأزمات بين الجيران، أي بين الدول المطلة عليه من كوريا الجنوبية واليابان وأندونيسيا والفلبين وفيتنام، لعرقلة المشروع الصيني القائم على مفهوم البحيرة الإقليمية التي يديرها الشركاء الطبيعيون جغرافياً، وهذا يستدعي من قبل الولايات المتحدة تصعيد الأزمات ورفع منسوب التوتر بين الجيران وصولاً إلى تبرير التدويل العسكري لهذه الأزمات، وهذا بطبيعة الحال يزعج الصين، وبشكل أوضح تسعى واشنطن إلى إثارة مخاوف وهواجس الدول المجاورة للصين، لتطلب هذه الدول الحماية الأمريكية، تماماً كما تتعامل أمريكا في الخليج العربي بكذبة إنتاج الذعر من إيران!

وهنا لابد من التأكيد أن الصين هي شريك العرب والمسلمين وسائر الشعوب في مواجهة مشاريع الهيمنة الأمريكية، وهي قائدة العالم من الناحية الاقتصادية، وكما أنتج التحالف بينها وبين روسيا معادلات بدأت تغير العالم، فمن المنتظر تبلور توازنات في بحر الصين، بما يفوّت الفرصة على المخطط الأمريكي الرامي إلى توظيف أزمة الروهينغا لتنفيذ هذا المخطط الرامي إلى تدويل هذه الأزمة واستخدامها ذريعة للتمركز على حدود الصين، وبالتالي فإن الحل الإقليمي الذي ترعاه دول الجوار لبورما وهي الصين والهند وبنغلادش وتايلاند، هو الحل الذي يضمن أمن بورما ومن ضمنه أمن المسلمين فيها، ويقطع الطريق على اللعبة الأمريكية الخبيثة بذريعتها.

إن بحر الصين يشكل المنطقة الجغرافية المضطربة التي تبدو المرشح الأول للحلول مكان منطقة الشرق الأوسط، والمنطقة العربية تحديداً، لتصدّر الأحداث والنزاعات المستقبلية، فعلى شواطئه تدور مواجهة عالية التوتر، يرمي الأمريكيون من ورائها إلى الإمساك بمفاتيح هذا البحر ومنع الصين من ممارسة حقها الطبيعي في جعله بحيرة إقليمية تقرر توازناتها معادلات القوى المتشاطئة عليه، علماً بأن الأمريكيين موجودون على ضفاف هذا البحر، أي في كوريا الجنوبية واليابان وأندونيسيا والفلبين وفيتنام، ويعملون على عرقلة المشروع الصيني القائم أساساً على مفهوم البحيرة الإقليمية التي يشرف عليها ويديرها الشركاء الطبيعيون جغرافياً، كما ذكرنا قبل قليل، ويبدو أن إصغاء رئيس بورما تين كياو ورئيسة الوزراء أون سان تشي لمطالب تحسين العلاقات مع كل من الصين وروسيا أزعج واشنطن وبريطانيا من بورما.

باختصار، إن ما يدور في بورما له أبعاده السياسية، وليس فقط صراعاً بين البوذيين والمسلمين، كما تصوره وسائل الإعلام الأمريكية والغربية.

العدد 1107 - 22/5/2024