البالة… تشتري منها طوعاً أم قسراً؟!

يعود إلينا فصل الشتاء هذا العام وهو يجر البرد معه بخطا بطيئة، لينذر بالأشهر القارسة القادمة بخجل لتحط رحالها في بلادنا، وتبعد بعد ذلك خجلها لتبدأ موسم العواصف والأعاصير وتستخدم الرياح العاتية والمطر والبرد أسلحة لها. لهذا يبدأ المواطن بالتحضير لاستقبال موجة انخفاض درجات الحرارة هذه بطرق عدة، وأهمها اقتناء ملابس شتوية تقيه البرد الشديد، فيذهب كعادته إلى الأسواق الرئيسية المعروفة، لكنه في هذا العام يعود غالباً خالي الوفاض، مصدوماً بأسعار الثياب الشتوية التي تخطت ارتفاعاً ما كانت عليه في الأعوام السابقة.

سوء الأوضاع المعيشية التي يمر بها المواطن السوري، وانخفاض القيمة الشرائية لدخله، وغياب الرقابة الفعلية على هذا القطاع، تركت الشريحة الأوسع من السوريين أمام حلّين لا غير: إما أن يبقي جوفه فارغاً لتدفئة جسده الضعيف، أو التحول القسري ليصبح من رواد أسواق كان جل زوارها إما من المعدمين والفقراء أو الميسورين، لكنهم من هواة شراء البضاعة الأجنبية. إنها أسواق الملابس الأوربية المستعملة (البالة) التي دخلت بلادنا منذ سنوات طوال، ولكنها في سنوات الحرب استطاعت ببطء ولكن بقوة أن تجتاح وتسيطر على أسواق كاملة ومحال متعددة في مناطق متفرقة فبسطت نفوذها وأعلنت انتصارها على الأسواق الرئيسية، باجتذابها الجزء الأكبر من زبائنها لأسباب كثيرة، أهمها الغلاء الذي جعل الناس يجدون ملاذاً لاتقاء البرد في أكوام البسطات المتنوعة ومحلات البالة المصنفة حسب جودة البضاعة ونوعها وسعرها، غير أن السعر هنا لن يشكل عائقاً أمام معظم المتسوقين.

 فقد ٱصبحت البالة مركزاً يتوجه إليه الناس من سائر الطبقات ولكلً منهم أسبابه، فنجد أصحاب الدخل المحدود يقلبون الثياب على البسطات، ويحاولون جاهدين اختيار القطع الأنسب لهم وسط الأكوام المعروضة للبيع، الموزعة على أقسام حسب النوع من كنزات وبنطلونات وفساتين تناسب كل الأعمار والأذواق وكل حسب ميزانيته. فأسعار الثياب على البسطات أرخص من تلك المرتبة والمفروزة والمكوية التي يكون لها زبائنها القادرون على دفع ثمنها، وهذه أيضاً تبقى أرخص من القطع الجديدة تماماً، والدليل على ذلك كرت المبيع الأصلي للقطعة التي جاءت من تصفيات الماركات المشهورة والمولات الأجنبية المختلفة، والتي تمثل اختيار الطبقات الميسورة والغنية، فهم وحدهم من يستطيع تحمل سعرها المرتفع نسبياً علماً أنها تبقى أرخص من الصناعات المحلية أو توازيها بالسعر، وقد تتفوق عليها في بعض الحالات.

تقول هدى إنها ترتاد أسواق البالة منذ عدة أعوام، بعد اضطرارها إلى ترك منزلها والنزوح إلى مناطق آمنة، وبعد فقدانها لكل مستلزماتهم وثيابهم هي وأسرتها، فقد وجدت في البالة الحل الأنسب للتعويض عن بعض ما فقدوه، بشكل يناسب دخلهم المحدود.

أما عصام (شاب جامعي) فيقول إنه لا يستطيع تحمل تكلفة شراء الثياب الجديدة المحلية فسعر الملابس الغالية جعله يفضل شراء قطعتي ثياب أو أكثر من البالة بالمبلغ نفسه الذي كان سيؤمن له قطعة واحدة فقط جديدة محلية.

بينما قالت غالية إنها لطالما كانت من رواد سوق البالة وإنها تفضلها على البضاعة المحلية، لانخفاض سعرها ولجودة أقمشتها، وهي لا تقتني من الأسواق المحلية سوى الأشياء التي لا تجدها في البالة. وأشارت إلى أن سبب إقبال الناس الكبير على البالة في هذه الفترة إدراكهم أنها الأفضل من ناحية السعر والنوعية في ظل هذه الأزمة المالية التي تمر بها الكثير من العائلات، والتي جعلت شراء الملابس الجديدة عبئاً.

بينما أكد أحد الباعة أنه يعمل بهذه المهنة منذ عشرات السنين وقال إن هذه الأزمة ساعدت على انتشارها بكونها المكان الوحيد الذي توجد به ملابس تناسب أوضاع الناس المعيشية، غير أن هناك من بدل مهنته وأصبح يعمل بمهنتنا، فهي تصلح لمن لا يملك رأس مال كبير فيستطيع بمبلغ قليل أن يبدأ بتكوين عمل خاص به. وقال من يظن أن الفقراء هم فقط من يشترون من البالة فهو مخطئ، هناك الكثيرون من الأغنياء وميسوري الحال من مدمني التسوق هنا، فهم يرغبون دائما بشراء الماركات الأوربية الجديدة لتميز نوعيتها وأفضليتها على الصناعة المحلية، فهي ولو كانت جيدة في السابق إلا أنها تراجعت الأن وتدنت جودتها بشكل كبير مما يجعل البالة مقصداً للجميع لمن يبحث عن الرخيص ولمن يسعى خلف الجودة العالية.

عندما تتغير وجهة أغلب شرائح المجتمع السوري من الأسواق المعروفة ببضاعتها الجديدة المحلية  إلى سوق البالة، فهذا مؤشر لظاهرة أصبحت تحمل في داخلها الكثير من المؤشرات منها الجلي كتراجع مستوى معيشة السوريين الذي جعل من البالة الوجهة الوحيدة لهم، وبعضها المتواري عن الأنظار من تقهقر مستوى صناعة الملبوسات الجاهزة واستحالة السيطرة على أسعارها ونوعيتها من قبل الحكومة، فضلاً عن صعوبة إيقاف زحف الملابس المستعملة، فنحن نحتاج إلى دعم الصناعة المحلية ورفع جودتها مع إمكانية توفيرها بأسعار تتناسب مع دخل المواطنين والعمل على إعادة ثقة الناس بالصناعة المحلية وجودتها لتكون مسألة انتشار البالة بهذا الشكل الواسع  ظاهرة تخبو مع زوال الحرب وارتفاع مستوى الحياة المعيشية للمواطنين مع عودة استقرار البلاد، فلا يوجد شك أن أسواق البالة ستبقى ولن تزول ولكن هناك فرق بين أن يكون الذهاب إليها اختيارياً يتبع لقرار الفرد أو أن يكون مجبراً ولا يملك حلاً أخر غير ارتيادها والتجوال فيها والشراء منها.

العدد 1107 - 22/5/2024