الحاجة المتبادلة للعمل في المنازل

 في كل المجتمعات تتجلى ظواهر متعددة، تعبر عن شكل المجتمع وعاداته وتقاليده، تشمل مع الوقت صوراً من فقره وعوزه، ومن غناه وترفه، وترسم ملامحه وقسماته.

ومع الغنى تتكون الحاجة إلى الرفاهية بكل أشكالها، ومنها الترفع عن أداء المهام الصعبة والمتعبة، وتوكيل أحد ما لتنفيذها، وتشمل كل الأعمال ومنها الأعمال المنزلية، مع  العلم أنها ليست بالظاهرة المستجدة في المجتمعات، بل هي موجودة منذ الأزل، وفي كل حقبة تندرج تحت مسمى مختلف يحدد معه حجم العمل والمقابل المادي الذي يستحقه.

وسورية حالها كما هو حال كل البلدان التي يوجد فيها تقسيم طبقي يسمح للبعض استخدام طاقات الغير لإنجاز أعمالهم، لهذا لطالما كان هناك حاجة للعاملة المنزلية التي يقع على عاتقها مسؤولية الاعتناء بالمنزل، والمحافظة عليه نظيفاً ومرتّباً، وقبل هذه الحرب القاسية انتشرت ظاهرة استقدام العاملة الأجنبية المقيمة انتشار النار في الهشيم، ما يدل على مدى الاستقرار المادي الذي شهده السوريون، فمنهم من تعاقد مع واحدة للاهتمام بالمنزل، وبعضهم غالى قليلاً وأحضر أخرى لتكون مسؤولة عن أطفاله، إلى جانب قلة قليلة ظنوا مع الأسف أن عدد العاملات الأجنبيات في منزلهم محطّ فخر يدل على مدى غناهم، إلا أن استقدام العاملة الأجنبية توقف، وأُعيد القسم الأكبر منهم إلى بلدانهم، مما جعل الحاجة إلى عاملة منزلية تطفو من جديد على السطح، فطلبات تأمين العاملة المنزلية لا تنتهي، وحجم الطلب الكبير الذي أوجده اختفاء العمالة الأجنبية حصر مجالات الاختيار من جديد بالعاملة المحلية (بنت البلد)، التي ستكون الحل الوحيد لسد هذه الحاجة. 

لهذا تحول عمل بعض مكاتب استقدام العاملات الأجنبيات إلى تأمين عاملات محليات، يلبين طلب (الزبائن) الذي يختلف من أسرة إلى أخرى، فمنهم من يحتاج إلى العاملة المنزلية يومياً، ومنهم من يطلب أن تحضر أسبوعياً أو كل نصف شهر، أو أن يكون شغلها الشاغل الاعتناء بأحد كبار السن، وهي بهذه الحالة تكون محل ثقة من قبل المكتب المكلف بتشغيلها في الحالة الأولى، أما في الحالة الثانية وهي الأعم فيجري التواصل مع الفتاة العاملة على مبدأ التوصية من قبل إحدى الجارات أو الأقارب التي تمدح بعملها المتقن مقارنةً بأجرها المناسب. وبالعودة إلى الأسباب التي تستدعي استخدام عاملة منزلية نجدها متعددة، وجميعها يصب في بوتقة الرفاهية أو التخفيف من عبء الأعمال المنزلية على صاحبة المنزل، إن كانت مريضة بمرض مزمن، فتفضل في هذه الحالة دفع تكاليف العاملة على أن يتفاقم المرض معها، وتتحمل تكاليف علاج وأدوية تفوق أجرة العاملة بخمسة أضعاف، إن لم نضع بالحسبان حجم الألم الهائل لمن تعاني من داء في الظهر أو مفاصل الجسم، في حين لا نجد سوى سبب واحد يدفع العاملة المنزلية للغياب عن عائلتها، وإرهاق جسدها بالأعمال المجهدة لساعات طويلة، إلا حاجتها للمال الذي يؤمن طعام أسرتها وكساءها، ففقدان المعيل أو خسارة عمله وانضمامه إلى قائمة العاطلين عن العمل، فضلاً عن استحالة حصولها على فرصة عمل محترمة، إن كانت  لا تحمل شهادة أو لا تمتلك مهنة، جعل الكثير من الشابات والكبيرات بالسن أحياناً يتجهن للعمل بهذا المجال، رغم ما قد تتعرض له في بعض الحالات من مخاطر، كإصابة كبيرة بالعمل لا يوجد من يتكفل بعلاجها، أو الإجحاف في حقها والاقتطاع من أجرها أو تعنيفها لفظياً، وفي بعض الحالات تعنيفها جسدياً وقد يتعدى إلى مرحلة التحرش بها.

ولهذه الأسباب لايزال تأمين العاملة المنزلية المحلية لا يغطي الطلب، لفقدها من يحميها من الأذى ويدافع عن حقوقها، إذا استغلت، فنحن اليوم بأشد الحاجة إلى وضع ضوابط ونظام يحمي كلا الطرفين، وعلى وجه الخصوص العاملة التي لولا حاجتها لتأمين مصاريف الحياة المعيشية المتزايدة لما عملت.

العدد 1105 - 01/5/2024