عـرقلة لسوتشي أم إنعاش لجنيف وإحياء لداعش؟!

ما زالت الولايات المتحدة الأمريكية ترمي بحبائل كيدها وشبائك حيلها، فلا تكاد شعوب هذه المنطقة تلملم جراحها في صراع ما، حتى تجد نفسها في أتون صراع جديد.

يفاجئنا المسؤولون الأمريكيون، وعلى مختلف المستويات، بين الفينة والأخرى بتصريحات منفصلة عن الواقع تماماً، فسرعان ما يدرك المتأمل بأن الغاية من هذه التصريحات هي عرقلة الجهود الدبلوماسية الروسية في تسوية الأزمة السورية، وتحديداً مسار سوتشي الذي يبدو أن آفاقه ونتائجه ستكون واعدة ومثمرة.

سنبدأ دراستنا بآخر التصريحات الأمريكية، التي جاءت على لسان القائم بأعمال نائب وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط، ديفيد ساترفيلد، فقد أكد أمام مجلس الشيوخ أن (الولايات المتحدة الأمريكية لا تفهم الاستراتيجية الروسية طويلة الأمد في سورية). وأضاف: (علينا أن نتحرك في كل شيء من خلال القرار 2254 وشرعية مجلس الأمن، وهذا ما تفعله الولايات المتحدة الأمريكية والمجتمع الدولي. وهذا ما سيؤدي إلى مواجهة سوتشي والمبادرات الروسية، المعدة للتحكم بمسارٍ خاصٍ بها. نحن لا نستطيع ولن نقوم بشرعنة العملية البديلة للتسوية، التي تقوم بها روسيا).

لقد أجادت السيدة ماريا زاخاروفا، المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية في وصف تصريحات ساترفيلد بـ(البغيضة). فعلى الرغم من أن الإدارة الروسية، سواء على مستوى الرئاسة أو الخارجية أو الدفاع، تقدم بيانات مستمرة عن تطورات الأوضاع في سورية، على الصعيدين العسكري والسياسي، وأكدت غير مرة أن جميع الجهود المبذولة، سواء في أستانا أو جنيف أو التي ستبذل في سوتشي هي جهود متكاملة، والغاية منها هو إيقاف هذه المأساة المستمرة في سورية، والوصول إلى تسوية سياسية مرضية لجميع الأطراف المتصارعة، إلا أن الإدارة الأمريكية وموظفيها رفيعي المستوى لا يفهمون ما تقوم به روسيا، وهم في الحقيقة لا يريدون أن يفهموا، كما أنهم لا يكتفون بعدم الاهتمام والفهم، بل يسعون جاهدين إلى إحباط الجهود الروسية الرامية إلى حلها.

هذه الوقاحة الأمريكية تُعتبر إحدى العجائب في عالم الدبلوماسية، فهم لا يخجلون ولا يترددون في الإفصاح عما يريدونه، حتى لو كان ذلك متناقضاً أو ينطوي على استغباء للآخرين؛ إذ لم تحترم الولايات المتحدة يوماً مجلس الأمن أو الجمعية العامة للأمم المتحدة، ولم تكن مهتمة بتطبيق قراراتهما، إلا إذا كانت هذه القرارات تتماشى مع مصالحها الخاصة!

في الحقيقة، لم تتمكن روسيا عبر جولات أستانا المتلاحقة من كسب ثقة جميع الأطراف المتحاربة في سورية فحسب، بل استطاعت أيضاً كسب ثقة العديد من الدول في منطقة الشرق الأوسط، نظراً لمقارباتها الحكيمة للأزمة السورية. لذلك أعلنت العديد من القوى السياسية السورية عن استعدادها لحضور مؤتمر الحوار الوطني السوري بعيد صدور البيان المشترك لقمة سوتشي بين الرؤساء الثلاثة، بوتين وروحاني وأردوغان، التي انعقدت في شهر تشرين الثاني من العام الماضي. بالمقابل تحول مسار جنيف، بسبب عدم الجدية الغربية في معالجة الأزمة السورية، إلى ما يشبه الجثة، وهذه الحقيقة بدأت تشعر بها قوى المعارضة أيضاً.

ولم تقتصر محاولات عرقلة الجهود الدبلوماسية الروسية على المستوي الرسمي في الغرب، بل إن العديد من وسائل الإعلام الغربية تساهم في ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر، إلى درجة أن قناة مشهورة كـ(أورونيوز) لم تخصص سوى دقيقة ونصف للحديث عن القمة الثلاثية التي جمعت بوتين وروحاني وأردوغان، في حين أنها تخصص ساعات لعرض مناظر الدماء والخراب والعمليات الحربية، في مشهد يوحي بأن الجهود الإيجابية للتسوية السياسية لا تهمهم على الإطلاق، ولقد أشارت السيدة زاخاروفا إلى ذلك في موجزها الصحفي الذي تلا القمة مباشرةً، بتاريخ 23 تشرين الثاني 2017.

وبالعودة إلى تصريحات ساترفيلد، فلقد قال: (في الوقت الذي أعلنت فيه روسيا بأن الحرب ضد داعش قد انتهت، فإن الولايات المتحدة الأمريكية وشركاءها في التحالف لا تعتبر هذه الجهود قد انتهت).

في الواقع لا يمكن عزل هذا التصريح عن تصريحات سابقة لوزير الدفاع الأمريكي، جيمس ماتيس، حول بقاء القوات الأمريكية في سورية، فقد قال بتاريخ 14 تشرين الثاني 2017: (لم يعلن العدو بأنه سيخرج من المنطقة بعد، لذلك سنقاتله ما دام يريد القتال)، وأضاف أيضاً: (لن نبتعد قبل أن تحظى عملية جنيف بالقبول).

فعلى الرغم من توافر العديد من الشواهد على أن الإدارة الأمريكية متواطئة مع الجماعات الإرهابية وساعدتها بكل الطرق والوسائل، وكان آخرها هذه الفضيحة المدوية بتزويد الإرهابيين بطائرات مسيرة، إلا أن المسؤولين الأمريكيين لا يجدون حرجاً في الإدلاء بمثل هذه التصريحات الكاذبة.

في الحقيقة، لم يكتف ماتيس بالتصريحات السابقة فقط، بل أدلى لاحقاً، بتاريخ 29 كانون أول ،2017 بتصريح مثير للجدل أمام صحفيي البنتاغون، فقد قال واصفاً داعش بـ (ماركة) للإرهابيين: (بأنها يمكن أن تُلهِم الذئاب المنفردة؛ ويمكن أن تُلهِم مجموعات أخرى)، وأضاف: (إلا إن هذا أقل إلهاماً بعدما فقدوا البنية المادية للخلافة؛ إنها أقل إلهاماً من الوضع الذي كانت عليه الحكاية عندما ظهر حكمهم إلى الوجود. أعتقد أنها أصبحت ماركة أقل جاذبية، ولكن ما تزال هذه الجاذبية موجودة بالنسبة للمهتمين بتلك الفلسفة).

ختاماً، لقد تحولت الطروحات والأفكار الأمريكية الخاصة بالأزمة السورية إلى موضوعات للسخرية والتهكم في مختلف وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، الأمر الذي أفقدها مكانتها واحترامها بين دول العالم؛ وجميع هذه المحاولات تهدف إلى إطالة عمر الأزمة السورية، عبر عرقلة الحوار الوطني السوري في سوتشي، ومحاولة الدفع باتجاه مسار جنيف المصاب بالشلل؛ من هنا نفهم حديث الوزير الأمريكي ماتيس عن (ماركة) إرهابية جديدة أكثر جاذبية من داعش، وعلى ما يبدو أن زمن إنتاج هذه (الماركة) الإرهابية الجذابة بات قريباً جداً!

العدد 1104 - 24/4/2024