يسار العدالة ويسار العولمة الأمريكية

بغض النظر عن تشعب مصطلح اليسار وما يشتمل عليه اليوم من طيف واسع، فالمقصود بيسار العدالة الاجتماعية هنا، هو النقيض التاريخي لليمين القائم على النفوذ والمال والاستغلال، الذي يعتبر التفاوت بين البشر مشروعاً، يسار العدالة المناضل لإلغاء ذلك التفاوت، الممثل لمصالح الكادحين، المعارض لتدخّل الدين في الدولة والسياسة، المعادي للإمبريالية، الذي  يعتبر التجديد ضرورة من ضرورات التطور تقتضيه نظرية الشيوعية العلمية وفق المنهج المادي الجدلي والتاريخي، ولا ينفصل أي جزء من مكوناته الشخصية هذه عن أي جزء آخر، وصلابة تماسك هذه المكونات- المبادئ الجوهرية- هي التي أفشلت محاولات الخرق والاحتواء الأمريكية، وهنا مكمن الخلاف والاختلاف بين هذا اليسار ويسار أخر قد يرفع الشعارات نفسها، أو بعضها، واجهةً له، لكنه في الجوهر لا يملك من شخصية اليسار ما يؤهله لحمل هذا الصفة الإنسانية النضالية الكبيرة، لأنه- باختصار- في النظرية والممارسة أصبح جزءاً من اليمين، يتخذ من التجديد غطاءً لانهزاميّته  وانتهازيته وانصياعه، وتسخيره المبادئ الجوهرية  لخدمة مشروع العولمة الأمريكية المتوحشة، رغم الضجيج الذي يميّز خطابه.

يسار العولمة الأمريكية، هو الشكل المتطور المخترَق المدجّن، من مكونات ما بعد الحداثة السياسية، وليد ثقافة السوق المنحطة الذي يرى في خصمه الإيديولوجي يساراً متشنجاً ومتخشباً، في حملة دعائية تكشف خواءَها شراكتُه العضوية في برنامج الهيمنة والعدوان العسكري الأمريكي على العالم، وبضمنه الحرب على سورية.

تبدو أقسام العلوم السياسية في جامعات باريس اليوم مواخير مخابراتية، لإنتاج أفواج من رموز اليسار المعولم أمريكياً، الذي تؤكد سيرته التاريخية تبعيته منذ مزاد 1950 في قصر تيتانيا–برلين لشراء الضمائر، حيث اقتيدت غالبية من تيارات اليسار الأوربي ونُخَبه إلى مؤتمر الحرية الثقافية، بإدارة ورعاية وتمويل من مؤسسة فورد، كواجهة لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية، بهدف توظيف الثقافة فكراً وفناً وأدباً في إرساء قيم مصطنعة ضمن برنامج أمني معادٍ للشيوعية.

لم يمضِ عقد من الزمن حتى بدأت بالتفشي أعراض ذلك المؤتمر، وتجلّت بوضوح في الفشل الذي منيت به ثورة الطلاب، والذي كرس نجاح الولايات المتحدة الأمريكية في تسيير التاريخ الأوربي وفق مصالحها وبرنامجها، فقد (وجدت الجماهير الأوربية نفسها منجرّة إلى حركات ترى في المساواة علامة الانحلال)(1).  لكن البرنامج تطور تطوراً كبيراً ليتمكن من خرق المنظومة الاشتراكية ذاتها، حين (استولت اللاعقلانية على عقول الأنتلجنسيا والعمال أثناء الثورات المخملية في أوربا الشرقية، لقد حطموا بنى المجتمع ومهدوا الطريق للرأسمالية من غير أن يرغبوا في ذلك، بومضة من اللاوعي الجماعي) (2)، ثم خرق مختلف دول العالم. ففي عام 1993 كشف كتاب جين شارب (من الدكتاتورية إلى الديمقراطية ، الأسس المفاهيمية للتحرر) عن مذهب التحكم بوعي الجماهير وإيديولوجيا تصدير الديمقراطية والوسائل التي درّست لنشطاء المجتمع المدني لتقويض الأنظمة، بهدف (نقل منبع الشرعية من الدولة المستهدفة إلى نواة منظومة الرأسمالية) (3). وهو ما تؤكده عدة مراجع منها كتاب الأكاديمي الكندي من أصل جزائري أحمد بن سعادة بعنوان (أرابيسك أمريكية) تحدث عن البرنامج المصمم لتكريس القيم الثقافية الأمريكية ونشر الديمقراطية في العالم الذي يشمل تغيير أنظمة 100 دولة. وقال إن الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية usaidأنفقت خلال العقدين الأخيرين ما لا يقل عن تسعة مليارات دولار من أجل تحقيق هذا الغرض.

ضمن البرنامج المذكور طرحت الأكاديمية السورية بسمة قضماني مبادرة الإصلاح العربي، كمديرة تنفيذية لها، وهي من الحاصلين على الدكتوراه في العلوم السياسية من معهد الدراسات السياسية في باريس، وكانت قد قادت برنامجاً للتعاون الدولي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في مؤسسة فورد (هي ذاتها التي موّلت سابقاً مؤتمر الحرية الثقافية). وتضم المبادرة شبكة من معاهد البحوث والدراسات العربية، مع شركاء من الولايات المتحدة وأوربا، وتدّعي أن هدفها رفع مستوى الوعي في العالم العربي حول الانتقال الناجح إلى الديمقراطية.

هذه نبذة مختصرة عن سيطرة الولايات المتحدة على هذه الحقبة من التاريخ البشري، وتحكّمها بكل منعطفاته الكبرى وبعدد كبير من القوى والتيارات المكلفة بتأمين الغطاء الفكري والدعائي (مبدأ نشر الديمقراطية) للتدخل العسكري الأمريكي في دول العالم،  ومن أبرز تلك القوى والتيارات يسار العولمة الأمريكية  الذي فتحت له رزمات البترودولار وأبواب معاهد الدراسات والبحوث والأقنية الفضائية التي تعج جميعها بالأجهزة الأمنية، ولدى أغلبها علاقات مع الكيان الصهيوني، لتجميل التوسع الاستعماري وتبريره وخلق بيئة حاضنة له داخل مجتمعاتنا.

جيل الشباب الميال للعلمانية في سورية الذي نشأ في ظروف القحط السياسي المتعمد، ربما لم يستوعب مدى الفضيحة  في انطلاق مفهوم التجديد عند  يسار العولمة الأمريكية من قاعدة سوقية لتطويع الماركسية لخدمة برنامج الولايات المتحدة ذاك، والتخلص من عبء الإرث اللينيني، سواء من جهة ربطه نضال اليسار الطبقي بمناهضة الامبريالية، أو من جهة فضحه النزعات التحريفية، وقد بلغت اليوم مع هذا اليسار درجة عالية من الحقارة لم تبلغها الظواهر التي حلّلها لينين، من مرض اليسارية الطفولي، إلى الصبيانية اليسارية، إلى روح المغامرة الثورية، إلى الجملة الثورية … الخ ، فمع أن المرء لا يحتاج إلى ذكاء خارق ليكتشف عدم إمكانية قيام ثورات حقيقة لمصلحة الشعوب في هذه المرحلة من الزمن الأمريكي، أو ليكتشف أن حراكاً مدعوماً من واشنطن وتل أبيب والرياض يستحيل أن يحمل مضموناً وطنياً واجتماعياً ومطلبياً، أو ليعرف أن حراكاً دعا إليه وأداره الإسلام السياسي يستحيل أن يلعب فيه العلمانيون دوراً يفوق دور التابع لتابع، لكن التشويش الذهني والوطني والإنساني الذي غرسه اليسار المؤمرك في وعي هذا الجيل هو الذي زج به في أتون الصراع مجرداً من طاقته، ليجني الخيبة والخذلان سريعاً بسبب المفاهيم المقلوبة التي تلقنها.

يسار العولمة الأمريكية بدلاً من مراجعة نقدية لذاته واعتذار لضحاياه، وفي تأكيد آخر للدور المكلف به، غرق أكثر في تبريره الهزلي للجريمة الدولية التاريخية التي كان شريكاً للمتكالبين فيها على وطننا، ولإفلاسه بسرقة الإسلام السياسي للثورة، وضجّت وسائل الاتصال بالتصريحات المرددة لهذا التبرير في كتابات تيار اليسار الثوري في سورية وحركة معاً ومرتزقة عزمي بشارة السوريين على موقع العربي الجديد وغيرهم.

مقابل أبواق الدعاية الإمبريالية لم تبخل بالحقيقة أقلام حافظت على نظافتها ووفائها لمبدأ العدالة، ومنها ما جاء في مقالة الكاتب فينسان لونرمان– ترجمها الكاتب علي إبراهيم على موقع أورهاي– بعنوان (اليسار الثوري ، التلاعب الكبير) كشف فيها كيف جرى التلاعب بالمجموعات اليسارية وإعادة بنائها بما يخدم أغراض الحرب على سورية، وقال إن الأمر يتعلق بفرض الشروط والسيطرة على الفكر، وإنه قد جرى الهجوم على من بقي من المعادين للإمبريالية بالسخرية والشتم واعتبارهم أصدقاء للطغاة، وأن المشروع كان يقضي بتصوير الحرب العدوانية على أنها ثورات، وكان على اليسار الثوري التصفيق للحرب باسم التضامن الثوري، وحدد الكاتب ثلاثة مبادئ ارتكز عليها هذا اليسار:

1- التقليل من التهديد الطائفي للإخوان المسلمين، إذ وجب القول إنهم ليسوا بهذه الخطورة، ويمكن أن يكونوا حلفاء وجزءاً من ثورة ديمقراطية تحررية، وليس لهم سوى القليل من الحضور الناشط على الأرض.

2-  الدعوة إلى العنف ورفض الحوار، فقد اعتبر هؤلاء منذ شهر نيسان 2011 أن الأوان قد فات على الحوار، وكانوا يريدون للدم أن يسفك. وقال البروفيسور اللبناني جلبير أشقر على سبيل المثال: (لا يمكن للثورة السورية أن تتطور ما لم تتحول إلى حرب أهلية). 

 3- حماية الولايات المتحدة وإسرائيل وآل سعود، إذ إن التعليمات كانت تقتضي إخفاء المسؤولين الحقيقيين عن الحرب (الناتو وإسرائيل والخليج)، عن طريق إشاعة كذبة تقول على حد تعبير حزب  npa)  الجديد المناهض للرأسمالية الفرنسي)،  بأن الحفاظ على النظام السوري هو الخيار الأفضل لإسرائيل، ويذكر أن هذا الحزب أسس تجمعاً باسم الثورة السورية لتقديم المساعدات إلى (الثوار) على أنهم مناضلون سلميون.

لقد كشفت المقالة المذكورة حجم الإجرام والكذب والتضليل الذي مارسته قوى اليسار المعولم أمريكياً لدرجة أن الكاتب قال عن جلبير أشقر وغياث نعيسة وجوزيف ضاهر وزياد ماجد، بوضوح: (من حقنا أن نعتقد أنهم عملاء).

**************

1-ص52 من كتاب تصدير الثورة، لعدد من المؤلفين الروس –ترجمة عياد عيد – وزارة الثقافة.

2-ص54 المصدر نفسه.

ص57 المصدر نفسه. 

العدد 1105 - 01/5/2024