استراتيجية عدوانية وقحة

 قبل أن ينتهي عام 2017 عمدت الإدارة الأمريكية عبر فريق استشاري إلى وضع (استراتيجية الأمن القومي الأمريكي) لتكون مرجعاً عاماً لإدارة الرئيس (ترامب) في مجالات السياسات الداخلية والخارجية للولايات المتحدة الأمريكية.

لقد حددت هذه الوثيقة الموضوعة والمكونة من 55 صفحة، الصين وروسيا كدولتين تعملان لمنافسة الولايات المتحدة على زعامة العالم والتفرد بقيادته، وعلى سبيل المثال، نورد فيما يلي بعض ما جاء في بنودها ونصوصها:

– في المقدمة منها ورد ما يلي: (إن الولايات المتحدة ستردّ على المنافسة السياسية والاقتصادية والعسكرية المتصاعدة التي تواجهها على الساحة الدولية، وأن الصين وروسيا تتحديان القوة الأمريكية، نفوذاً ومصالح، وكل ذلك، بهدف تعريض الأمن والرفاهية الأمريكيين للتآكل.. إنهما تحاولان جعل الاقتصادات أقل حرية وأقل عدالة، وتقومان بتطوير ترسانتيهما العسكريتين، والسيطرة على المعلومات وقواعد البيانات وقمع مجتمعيهما، وتوسيع نطاق نفوذهما).

وفي اتجاه آخر، جاء في هذه الاستراتيجية التأكيد (أن الولايات المتحدة قد تعلمت درساً قاسياً، وهو أنه إذا تخلت واشنطن عن قيادة العالم، فإن لاعبين أشراراً يقومون بملء الفراغ بما هو ليس في صالح الولايات المتحدة، وحين تقود الولايات المتحدة العالم من موقع القوة والثقة، وبما يوافق مصالح الأمريكيين وقيمهم، فإن الجميع يربح من وراء هذه القيادة).

والسؤال الذي يطرح نفسه: ماذا تحمل هذه الوثيقة (الاستراتيجية) بين طياتها؟

وما هو الطابع العام لها؟

أولاً_ إن الطابع العام لها، هو طابع عدواني بشكل واضح لا يقبل الشك أو المناقشة، بدليل ما جاء فيها من عبارات عدوانية ومنفرة مثل عبارة (لاعبين أشرار) والمقصود بهم بالدرجة الأولى: موسكو وبكين، وكأن الولايات المتحدة- كما يتخيل واضعو هذه الاستراتيجية_ هي مصدر الخير والرخاء والتسامح في العالم، بينما الأمر هو على العكس من ذلك، فالولايات المتحدة هي مصدر الشر والعدوان وحب الهيمنة على الشعوب ونهب خيراتها وقتل أبنائها، ومجازرها ضد الهنود الحمر سكان أمريكا الأصليين وضد شعب فيتنام ودول وشعوب أخرى، معروفة للجميع، وبالتالي فإن صفحتها سوداء ومعتمة وملوثة بدماء الأبرياء!

ثانياً_ من هو الرابح أو الذي سيربح حين تقود أمريكا العالم؟ بالتأكيد لا أحد يربح، بل الكل خاسرون، حتى عملاؤها أو من تدعي أنهم أصدقاؤها فهم خاسرون أيضاً، لأنها تبتزهم بذرائع متعددة وبأشكال مختلفة.

ثالثاً_ إن روسيا والصين لم تتحديا أحداً عبر تاريخهما، ولم تطورا ترسانتيهما العسكريتين إلا لحماية نفسيهما، والدفاع عن سيادتيهما، وليس لتوسيع هيمنتهما على شعوب العالم واستعبادها ونهب خيراتها، والتاريخ يشهد على ذلك.

رابعاً_ المثير واللافت في الأمر، أن هذه الاستراتيجية ليست علنية فحسب، بل وقحة إلى حد كبير، في تحديد من تسميهم الخصوم (أي روسيا والصين)، وفي تحديد لأهداف الإدارة الأمريكية ونواياها فيما يتعلق بالداخل الأمريكي والسياسية الخارجية الأمريكية.

 وفيما يتعلق بموقف روسيا والصين منها، كان هذا الموقف منطقياً وواضحاً، روسيا شددت على أنها استراتيجية عدوانية ولها طابع إمبريالي ومستهتر بحقيقة العالم متعدد الأقطاب، وهي على حق في هذا التقييم الموضوعي.

أما الصين، فقد وصفتها بأنها (استراتيجية متهورة وغير عقلانية) وهي على حق أيضاً في هذا الوصف الدقيق والحقيقي.

خامساً_ إن بعض العبارات التي وردت فيها مثل: (إن الدولتين أي الصين وروسيا تريدان إنهاء القيادة الأمريكية المتفردة للعالم)، تؤكد أن الولايات المتحدة مصممة على تحقيق أحلامها بأنها ستبقى متفردة بهذه القيادة، ومن دون أن تسمح لأحد بمشاركتها في القرار الدولي، متجاهلة قطبين مهمين صاعدين استطاعا حتى الآن رسم معالم عالم جديدة تنتفي منه مظاهر هيمنة القطب الواحد، وسط ترحيب دولي كبير بذلك رسمياً وشعبياً.

 والآن، تعكف الإدارة الأمريكية من خلال مؤسساتها المعنية على وضع الإطار التنفيذي لهذه الاستراتيجية وإخضاعه للمناقشة المعمقة قبل إقراره بصورة نهائية، وتصديق الرئيس الأمريكي عليها، إلا أن المرجح أن يبقى هذه الإطار سرياً، وستسند مهمة تنفيذه إلى وكالات وجهات الأمن الأمريكية التي تصل إلى 17 وكالة وجهازاً، ولن يتسرب أي مقتطفات منها لوسائل الإعلام إلا الطفيف، وبحسب ما تقضيه الحاجة السياسية والدبلوماسية.

باختصار، إن هذه الاستراتيجية تتمحور بشكل عام حول المنظور أو الشعار المبدئي الذي أطلقه ترامب قبل انتخابه رئيساً: (أمريكا أولاً)!

العدد 1107 - 22/5/2024