كي لا ننسى..أمينة عارف الجراح:أجل.. أيامها كانت غنية

أجل إن أيامها كانت غنية، إنها أمينة عارف الجراح، ولدت عام 1920 من عائلة دمشقية عريقة، توفي والدها وهي صغيرة، وقد قامت برعايتها مع إخوتها عمّتُها التي كانت تسكن في حي الصالحية، بسبب زواج أمها.. ومنذ نعومة أظفارها هزها وهي الفتاة الشفافة واقع حيها الفقير، وطيبة أناسه الفقراء. كانت عمتها تعمل لأجل إعالة أطفال شقيقها، الذي وافته المنية باكراً، والذي كان قد انخرط في صفوف الحركة الوطنية السورية، وتعرض للسجن والاضطهاد.

كان لابد لهذا الواقع الذي عاشته هذه الأسرة الصغيرة أن ينعكس عليها، وأن تعاني مثلها مثل بقية العوائل في هذا الحي، من الحاجة والعوز.. بيد أن العمة التي كانت من النساء المتنورات في تلك الفترة، وقد رفضت الحجاب في ظروف كانت المرأة السورية تعاني من الجهل والأمية والعزلة، وكان مثل هذا الموقف الجريء مثار استهجان من الواقع الاجتماعي الذي كان سائداً في ذلك الوقت.

إن هذا الموقف المتحرر من العمة، التي حرصت بكل ما تملك من قوة على تعليم أطفال شقيقها، ومن بينهم الطفلة أمينة وإرسالهم إلى المدارس، كان خطوة جريئة ومتقدمة، وكان له أكبر الأثر على تطور هذه الأسرة، وخصوصاً على الطفلة أمينة التي وجدت في عمتها الأم الرؤوم، والصديقة التي قدمت لها كل المساعدة لكي تجابه معارج الحياة، التي كانت العمة تعرف أنها لن تكون سهلة وخصوصاً بالنسبة للمرأة.

تشب الطفلة أمينة وتجتاز المرحلة الابتدائية لتدخل بعد ذلك المرحلة الثانوية، وهناك تعرفت على أستاذها نظيم الموصلي، الذي كان يدرس مادة التاريخ آنذاك، وكان أول من مارس التأثير على تكون وعيها الإنساني، من خلال دروسه التنويرية لمادة التاريخ، ومن خلال شرحه العميق للأسباب التاريخية للظلم الاجتماعي، وفيما بعد تعرفت على المناضلة الشيوعية الشابة فوزية الشلق، ووجدت نفسها تنجذب تدريجياً إلى صفوف الحزب الشيوعي السوري، وانخرطت مباشرة في النضال المعادي للفاشية وهي الشابة، وكانت من بين أعضاء جمعية التعاون الثقافي بين سورية والاتحاد السوفييتي، التي كانت تضم في صفوفها خيرة ممثلي الثقافة التقدمية والوطنية آنذاك، مثل كامل عياد، ونظيم الموصلي، اللذين تتلمذت عليهما، والأديب ليان ديراني ومنير سليمان وغيرهم.

كان نشاط هذه الجمعية موجهاً لمكافحة الفاشية والنازية، وفيما بعد تتعزز روابطها مع الحزب، بعد أن تعرفت بالمناضل الشيوعي المعروف آنذاك نجاة قصاب حسن، الذي لعب دوراً هاماً في تاريخ الحزب، ومنظمة دمشق على الأخص، في النصف الثاني من ثلاثينيات القرن الماضي وأربعينياته، وتصبح زوجته ورفيقة حياته.

ومنذ ذلك الوقت، نذرت هذه الإنسانة الرقيقة حياتها من أجل حقوق المرأة، ومن أجل العدالة الاجتماعية للرجل والمرأة بآن واحد، وتتعرض هذه المناضلة الإنسانية للملاحقة مع زوجها، في الأعوام التي اضطهد فيها الحزب ولوحق مع بدء الحرب العالمية الثانية، وتعاني مع زوجها كل ضروب الحرمان وشظف العيش.. إلا أن كل ذلك لم يمنعها من ممارسة نشاطها الذي لا يكل في صفوف الحزب، وفي صفوف الحركة النسائية الديمقراطية، ونتيجة ذلك تسرّح من عملها في مجال التربية، وتلاحق.. بيد أن كل ذلك كان يزيدها إيماناً بأن مستقبل سورية سيكون أفضل، وأن مثُل العدالة والإنسانية لابد أن تنتصر.

إن كل هذا النشاط، وهذا الإخلاص للقضية الوطنية وللمسألة النسوية، أهّلها كي تكون ممثلة الحركة النسوية الديمقراطية في سورية بمؤتمر نساء آسيا وإفريقيا الذي عقد عام 1949 في الصين، حيث قامت بدورها بصورة رائعة وحصلت على تعاطف تضامني عاصف من مندوبات المؤتمر.

لم يقتصر كفاح هذه الامرأة الرائعة على النضال السياسي والاجتماعي فقط، وإنما شمل أيضاً نضالها في المجال التربوي، وخصوصاً أنها عملت فيما بعد مدرّسة في هذا المجال، وقد جهدت بكل ما تستطيع من قوة كي يأخذ التعليم في البلاد طابعه الإنساني والتربوي.

إن الحديث عن تاريخ هذه الإنسانة المناضلة يضيق في هذه اللمحة الموجزة عن حياتها، بيد أن عطاءها الوطني والاجتماعي والإنساني، وحبها العميق للناس البسطاء، وشعورها العالي والمرهف بمثل العدالة، كل ذلك جعل منها نموذجاً للمرأة التي وهبت حياتها للوطن وللشعب، وأصبحت تراثاً إنسانياً يجب أن تتمثله الأجيال اللاحقة ويجب أن لا يُنسى.

العدد 1105 - 01/5/2024