فرنسا بين الليبرالية والتطرف

عاشت فرنسا في الآونة الأخيرة أسوأ الحملات الانتخابية الرئاسية في تاريخ الجمهورية الخامسة. فقد أظهرت الحملة الانتخابية تدني مستوى النقاش السياسي، والأزمة الداخلية التي تفتك بفرنسا. ذلك أن الذي حصل، وما زال يحصل من مشادات كلامية بين المرشحين، سياسية كانت أم شخصية، يزيد من حدة انقسام الشارع الفرنسي وشرذمته.

التهديد الإرهابي التي ترزح تحته فرنسا، كسائر الدول الأوربية، طغى على خطابات المرشحين، مستغلين في كثير من الأحيان هذا الموضوع، لتخويف الناخبين الفرنسيين، وجعلهم يميلون إليهم، دون اقتراح الحلول الواضحة لمعالجة هذه المعضلة.

دخلت سورية بنداً أساسياً في خطابات المرشحين الفرنسيين لرئاسة الجمهورية، علماً أن الانتخابات الرئاسية هي موضوع فرنسي داخلي.

لكن المرشحين، كما سائر حكام فرنسا حصروا كل مبادئ السياسة الخارجية الفرنسية بأزمة سورية، ما يؤكد مرة أخرى انقياد فرنسا وراء سياسات الولايات المتحدة الأمريكية في العالم. حتى في قضية داخلية كالانتخابات الرئاسية، لن يخرج المرشحون الفرنسيون بموضوع السياسة الخارجية عن الخط الذي رسمه لهم المحور الصهيوني العالمي منذ بعض السنين. مما يطرح السؤال حول مصداقيتهم، ومشاركتهم في حملة الكذب والنفاق الجارية منذ سنين بخصوص سورية.

فإن كانت سورية تتصدر الأولية في سياسة فرنسا الخارجية، فماذا عن السياسة الخارجية الفرنسية من الحرب في اليمن، ليبيا،والعراق؟

ماذا عن معاناة شعب البحرين، والعلاقة مع روسيا والصين؟

 لماذا عدم التطرق إلى هذه الأمور، وعدم الوضوح فيها؟ ماذا عن علاقة فرنسا بالولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، التي أجبرت الرئيس فرانسوا هولاند على تخليه كلياً عن موضوع فلسطين؟

فرزت انتخابات الدورة الأولى، مرشحَين منتميَين إلى مشروعين مختلفين تماماً:

أمنويل ماكرون، الابن الروحي للرئيس الحالي فرانسوا هولاند، والذي سيتابع حتماً سياسته التي برهنت عن فشل ذريع، وخفّة في التعامل السياسي وقيادة فرنسا. أما مارين لوبين فهي ليس لها أية خبرة في الحكم، ولو أنها هي ووالدها قضيا حياتيهما في المعترك السياسي الفرنسي.

فإن فاز ماكرون، أو لوبين، فالاثنان لا يستطيعان تحقيق ما يطمحان له، وتحقيق الوعود التي يعدان بها الشعب الفرنسي.

فأمنويل ماكرون المدعوم من الرأسمالية العالمية المتصهنية، لن يكون إلا بإمرتها، وخاضعاً لها. فدعمها له هو بهدف الهيمنة أكثر فأكثر على فرنسا وإخضاعها كلياً لإرادتها، كما هو الحال مع الرئيس فرانسوا هولاند.

أما بالنسبة إلى السيدة لوبين، فإنها تعد بأشياء مثل الخروج من الاتحاد الأوربي، الذي كانت فرنسا من أول مؤسسيه، وإيقاف التعامل باليورو، مع أن كل البلدان حولها يتعاملون باليورو. فهل لدى السيدة لوبين القدرة لجعل الفرنك الفرنسي القديم أقوى من اليورو؟ كم سيكلف هذا التحول الاقتصاد الفرنسي المنهار منذ عدة عقود؟

 ما هي قدرة المرشحة مارين لوبين في عصر العولمة على إعادة حدود فرنسا إلى ما كانت عليه قبل إنشاء الاتحاد الأوربي؟ هذه الأمور وغيرها كموقفها الإيجابي من الحرب في سورية، ودفاعها عن مسيحيي الشرق، لا تجعل منها رئيسة مستقلة أو أكثر حرية في قرارها. ففرنسا ليست بعظمة الولايات المتحدة الأمريكية، وليست بقوة ودهاء روسيا، وليست مهيمنة على القارة الأوربية، لكي تحدد من تلقاء نفسها الأشياء، ضاربة بعرض الحائط كل تطورات العالم من حولها.

 في الوقت الحاضر العراك السياسي، سيحتدم أكثر فأكثر مع الأيام، بعبور مارين لوبين إلى الدورة الثانية سينعدم كلياً النقاش السياسي في الشارع الفرنسي، لن يكون في الفترة القادمة تطرّق إلى مشاريع المرشحين إلى الدورة الثانية، بل كل الاهتمامات والجهود، كما هي حال وسائل الإعلام، ستكون مسخّرة لمحاربة اليمين المتطرف، وعلى رأسه مارين لوبين، لمنعها من الوصول إلى سدّة الرئاسة.

كل هذه التداعيات، ستترك أثراً جسيماً على الحياة السياسية الفرنسية، ما سيشكل تحولات كبيرة، وقد  تكون خطيرة على مستقبل فرنسا، إذا أخذنا بعين الاعتبار ما يجري في العالم وخصوصاً في الشرق الأوسط، وترتد نتائجه يوماً بيوم على أوربا عامة وفرنسا خاصة.

 

 

العدد 1107 - 22/5/2024