مهمّة واضحة مقابل مهمة مبهمة

د. أحمد ديركي:

يقتصر العنوان على بعض أسماء المناطق، وتحديداً أسماء قرى، ومن ثم يتوسع ليشمل أسماء بلاد عربية. وتحديداً بلدين هما فلسطين ولبنان. دير ياسين تقع في فلسطين، وحولا قرية تقع في جنوب لبنان، وصبرا وشاتيلا في لبنان، وتحديداً في العاصمة بيروت.

ذكرت أسماء هذه المدن لمجرد التذكير بالمجازر التي ارتكبها العدو الصهيوني في كل من هذه القرى، والمدن. وما هذه المجازر المرتكبة بحق الشعبين الفلسطيني واللبناني إلا عيّنة من مجازر كثيرة ارتكبها الكيان الصهيوني، وما زال يرتكبها، بحق الشعبين اللبناني والفلسطيني. فلو أردنا ذكر ما ارتكبه ويرتكبه الكيان الصهيوني من مجازر بحق الشعبين الفلسطيني واللبناني لاحتجنا إلى مجلدات لذكرهاـ وكلها مجازر مؤرشفة ومدونة، وهناك بعض منها غير مؤرشف لكن ذاكرة من عاصرها ما زالت تحملها.

مجازر يطمسها العدو الصهيوني، وتتجاهلها الأنظمة التعليمية في العالم العربي، في سبيل إظهار وكأن الحرب سابقاً بين الكيان الصهيوني والدول العربية، والتي كانت تعرف بالحرب العربية – الإسرائيلية، كانت حرباً بين جيوش لاسترجاع فلسطين إلى موقعها الطبيعي، وتحريرها من هذا الكيان الغاصب لها، من دون ذكر مجازره.

إهمال التذكير بالمجازر الصهيونية غير مبرر من قبل الجميع، لأن هذا الكيان يلعب لعبة ذاك البريء المعتدى عليه، فأطلق على جيشه تسمية (جيش الدفاع الإسرائيلي). والدفاع هنا لم تأتِ من فراغ، وإنما هي تعبير أن هناك من يعتدي عليه، وما مهمته سوى الدفاع عن النفس، بمعنى الدفاع عن وجود الدولة التي يحميها. بينما الجيوش العربية، المجهولة المهمة، وبخاصة بعد أن تخلت الدولة العربية عن حربها مع هذا الكيان، أصبحت جيوشاً متعددة المهام إلا مهمة مواجهة الكيان الصهيوني! فهذه المهمة ليست ضمن الأولويات في الوقت الراهن، منذ أمد بعيد.

بينما بقيت مهمة جيش الكيان واضحة المعالم لا لبس فيها. فمهمته تنفيذ سياسة الكيان الصهيوني بالقوة العسكرية المدعومة أمريكياً وأوربياً وعربياً، ومن المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة وتفرعاتها. نعم، المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة وتفرعاتها داعمة للكيان الصهيوني، وإلا ما كانت قبلت عضويته لأنه غير مستوفٍ شروط العضوية! لكنه أصبح عضواً فيها ومكتمل العضوية، يهينها ويدوس ويمزق قراراتها عندما يشاء ويستخدمها لمصلحته عندما يشاء! طبعاً ما كان له أن يفعل هذا لو لم يكن قاعدة عسكرية أمريكية الصنع في المنطقة.

بالعودة إلى مهمة الجيش الصهيوني، وهي تنفيذ سياسة الكيان الصهيوني الواضحة الهدف. قتل الشعب الفلسطيني لتتحول فلسطين إلى أرض بلا شعب يستعاض عنه بكل من يحمل الفكر الصهيوني، والأمر عينه بالنسبة لجزء كبير من لبنان، وسورية، والأردن، والعراق والسعودية. فالخارطة المرسومة على لباس الجيش الصهيوني توضح الخريطة الجغرافية الطامح لتحقيقها هذا الكيان.

بعبارة أخرى كل يهودي أتى من خارج فلسطين ليقيم على أرض فلسطين هو صهيوني يعمل على دعم الكيان الصهيوني، ومشروعه. لقد أتى ليساهم في ارتكاب المجازر بطريقة مباشرة بحق الشعب الفلسطيني واللبناني. وما هذه المجازر، في فلسطين ولبنان، إلا بداية ليستهل بها تحقيق خريطته. فأصبحت اليوم مهمة الجيش الصهيوني أكثر وضوحاً مما كانت عليه في السابق، مهمته قتل كل بشري يقف بطريق تنفيذ المهمة الموكلة إليه.

لتحقيق هدفه عليه بداية إعادة رسم خريطة المنطقة، وتحويلها إلى دويلات متناحرة فيما بينها تقتل بعضها البعض، ومن ثم يأتي جيش الكيان ليقضي على من تبقى من شعوبها المتناحرة ويحتلها، محولاً إياها إلى دولته المنشودة. وما هذا إلا تعبير آخر عن مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي بشرت به وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، كونديليسا رايس، عندما زارت لبنان خلال العدوان الصهيوني عليه في عام 2006 وقالت: (إننا نشهد مخاض ولادة شرق أوسط جديد).

مسألة شرق أوسط جديد ليست بالمشروع الجديد، بل هو مشروع طُرح منذ ثمانينات القرن الماضي بشكل أولي في مقال في مجلة صهيونية اسمها كيفينيم (Kivunim)، كاتب المقال أوديد يونون (Oded Yinon)، مستشار سابق لأرييل شارون، وبعض ما جاء فيه:

(تقسيم لبنان إلى خمس مناطق، بحكومات محلية وهذا ما يعتبر مقدمة لبقية العالم العربي… تفكيك سورية ولاحقاً العراق إلى مناطق أثنية وأقليات دينية تتبع النموذج اللبناني. هذا هدف اسرائيل على المدى البعيد على الجبهة الشرقية. والهدف القريب هو اضعاف جيوش هذه الدول. فسورية سوف تفكك إلى عدة دويلات اعتماداً على بنيتها العرقية والطائفية… وبهذا سوف يكون هناك دويلة شيعية – علوية، وحلب سنية، ودمشق دويلة أخرى معادية لجنوبها. والدروز، حتى أولئك الموجودون في الجولان – عليهم تأسيس دويلتهم في حوران شمالي الأردن. دولة العراق دولة النفط هي الهدف الأول… وسيكون فيه ثلاث مدن رئيسية: البصرة، وبغداد، والموصل، ودويلات الشيعة ستكون منفصلة عن الدويلات السنية. وكل الجزيرة العربية مرشح طبيعي للتفكّك. وسياسة إسرائيل بالحرب أو السلم يجب أن تعمل على إزالة الأردن).

هذه هي الخطوط العريضة لمشروع الشرق الأوسط الجديد الذي تعمل الولايات المتحدة الأمريكية على صناعته من خلال أداتها في المنطقة الكيان الصهيوني.

المضحك في الأمر أن المقال مكتوب في القرن الماضي ومنشور، ولا من يقرأ ولا من عمل على مشروع للمواجهة. لكنْ هل فعلاً لم يُقرأ أم قرأه الجميع، وجرت الموافقة عليه؟

إذا تتبعنا الخطوط العريضة للمشروع، منذ ذلك الوقت، يمكن أن نرى من دون أيّ لبس أنه يسير بخطا ثابتة، وإن تعثّر في بعض الأماكن. وما تعثره إلا بسبب المقاومة في فلسطين وفي لبنان. فقد نفذ في العراق، منذ أن اجتاحته قوى الإمبريالية العالمية بشكل مباشر، وارتكبت فيه مجازر شبيهة بما يرتكبه الكيان الصهيوني، وطبقت المشروع. فالعراق اليوم، تلك الدولة النفطية، أصبحت دويلات طائفية وأثنية متناحرة! وسورية أهلها أعلم بحالهم! ولبنان أصوات اليمين اللبناني وتقسيمه إلى فدراليات متعالية جداً تحت مسمى اللامركزية الإدارية!

غياب مشروع المواجهة من قبل الأنظمة (المهددة) يعني أن هذه الأنظمة موافقة على مجريات المشروع، بطريقة مباشرة. والمشروع ينفذ بأدوات صهيونية إجرامية إلى حد علانية إجراميته بقتل كل كائن حي يعيق طريق تنفيذ مشروعه ليحقق خريطة رسمت منذ ثمانينات القرن المنصرم، وها هو ذا اليوم يعلنها علناً لتكون شعاراً يرتديه جيش العدو.

مشروع علني أعلنه الأمريكي وينفذه الصهيوني ولم نسمع كلمة واحدة من كل الأنظمة العربية حول كيفية مواجهته. لقد ضجت وسائل التواصل الاجتماعي حول تلك الخريطة الموجودة على لباس جيش العدو، وكان قبلها قد أكدها العدو من على منبر الأمم المتحدة، والأنظمة العربية لا ترى ولا تسمع ولا تتكلم!

المجازر ليست بالأمر الجديد في الفكر الإمبريالي وأعوانه. وما مجازر الحرب العالمية الأولى والثانية إلا نموذج مصغر مقارنة بمجازر العدو الصهيوني ومجاز الامبريالية العالمية، ورأس هرمها الولايات المتحدة الأمريكية.

كي تضع أول خطوة في تنفيذ مشروعها، الشرق الأوسط الجديد، استهلت الولايات الأميركية الخطوة الأولى بتدمير العراق وتشريد سكانه وقتل شعبه، ومن ثم ارتكاب أبشع أنواع المجازر والتعذيب الوحشي، من معتقل غوانتنامو وصولاً إلى معتقل أبو غريب. ارتكبت كل هذه الوحشية بكذبة، وهي من اعترف بأنها كذبة، تقول إن العراق يمتلك أسلحة الدمار الشامل! كذبة ترافقت مع قول رئيسها إن غزو العراق (حرب صليبية)، فقد (ظهر عليه المسيح) وحثه على ارتكاب أبشع المجازر وتدمير العراق. فخلطت الإمبريالية في غزوها للعراق وتدميره الدنيوي بالسماوي لاستباحته.

من بعدها أوكلت الإمبريالية الأميركية مهمة استكمال التنفيذ للكيان الصهيوني، فسار على خطاها بخلط الدنيوي بالسماوي وارتكب أبشع مجازر ممكن أن يتصورها العقل البشري! مجازر فاقت وحشيتها مجازر الإمبريالية العالمية، في حربيها العالمية الأولى والثانية، وفاقت مجازر النازية والفاشية، حتى فاقت بشاعة مجازر من أوكله مهمة استكمال تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد.

كل هذا يحدث والعالم العربي ما زال يدعو إلى مفاوضات ومباحثات مع العدو، الذي يصف كل مقاوم له على أنه (وحش يسير على قدمين) يجب قتله. صفة أطلقها بيغن، عند اجتياحه للبنان عام 1982، على المقاومين الفلسطينيين وغير الفلسطينيين. وارتكب مجزرة صبرا وشاتيلا، وهي أشنع مجزرة عرفتها البشرية في القرن العشرين. تطورت الصفة، كما تطور مشروع الشرق الأوسط الجديد، التي أطلقها بيغن عام 1982 لتصبح حالياً (حيوانات بشرية). فها هو ذا الكيان الصهيوني يستخدم أحدث الأسلحة الأمريكية الصنع لإبادة كل مقاومه في فلسطين ولبنان، لأن هذه المقاومة تعرقل تطبيق المشروع الموكل بتنفيذه.

مجزرة تليها مجزرة وكتب التأريخ العربية لا تذكرها، وكيف لها أن تذكرها، أو حتى تصيغ مشروع مواجهة، وكتب تاريخها متلهية بتعظيم الزعيم وإنجازاته وعبقريته إلى حد التقديس؟

العدد 1140 - 22/01/2025