هل يمكن التغلب على المشكلات البيئية الحادة التي تواجه العالم؟

يونس صالح:

هناك سؤال هام يُطرح على البشرية جمعاء: هل يمكن التغلب على المشكلات البيئية الحادة التي تواجه العالم؟

الإجابة صعبة دون شكّ، إذ إن الأمان البيئي يمتلك جوانبه السياسية والاجتماعية والاقتصادية. والصفة العامة للمشكلات البيئية تفترض إسهام جميع الدول في حلها- الفقيرة والغنية. والقضية تتلخص في كيف؟ وعلى حساب من يمكن النجاح في التعامل معها؟ وهل من الممكن تجنبها على أساس عادل؟ إذ إن الحديث يدور حول جانبين ثنائيين للنشاط البشري مرتبطين أحدهما بالآخر: الإنتاج، والاستهلاك. وبالنسبة إلى الدول الفقيرة فنمو الإنتاجية على أساس التكنولوجيا البيئية النظيفة والحديثة معاً، يعد المشكلة الحيوية لبقائها حية على مستوى متواضع من الاستهلاك. فهل ستتمكن هذه الدول من إنتاج هذه التكنولوجيا ونشرها؟ وبالنسبة إلى الدول الرأسمالية الغنية فقد أصبحت إحدى أهم مشكلاتها في أن الإنتاجية لم تعد مشكلة بقدر ما أصبحت المشكلة في البيئة نفسها- معالجة النفايات والتخلص منها.. فهل ستحلها بالطرق المعتادة- على حساب الدول النامية والفقيرة؟

أما ما يخص الاستهلاك، فالدول النامية في حاجة ملحة لنموه من أجل تلبية حاجاتها الأساسية، ومن أجل أن تعيش فحسب، وفي الوقت نفسه فالدول الغنية يمكنها التوجه نحو تحديد عاقل للاستهلاك، الأمر الذي يمكنه أن يؤدي إلى الارتفاع بنوعية حياتها.. ولكن كم يبدو هذا متناقضاً وغير مألوف.. إن هذا بإمكانه أن يسبب في تخفيف الحمل على البيئة المحيطة، فهل ترغب الدول الرأسمالية الغنية في ذلك؟

إن الواجب البيئي الواقع على عاتق الدول الغنية أمام الدول النامية هو جزء من المشكلة البيئية العالمية التي لا يمكن لنظرية التطور الجديدة ألا تأخذها بالحسبان. إن عدالة القضايا البيئية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية سوف تكون بشكل أو بآخر موجودة حتماً عند حل القضية المرتبطة بمسائل إقامة النظام العالمي الجديد.

إن النظريات العديدة المرتبطة باستراتيجية التطور ولاسيما للحقبة الاستعمارية، قد تغافلت عن قضايا العدالة في العلاقات بين الدول وبين الشرائح الاجتماعية، وفي نظريات التطور الأكثر حداثة وُجّه اهتمام أكبر إلى تلك الجوانب.. فقد أصبح عنصر العدالة الاجتماعية تحديداً جزءاً لا يتجزأ من التقدم الاقتصادي، الذي من دونه لا يمكن حدوث الاستقرار السياسي والاجتماعي.. ومن ثم تطور المجتمع فيما بعد.. كل هذا يعطي حتماً تأثيراً على الوضع في مناطق متفرقة وفي العالم ككل.

إن إدراك ضرورة تغيير جوهر نموذج التنمية الغربي يسيطر أكثر فأكثر على عقول العلماء والسياسيين في الغرب والشرق، كما أن الإحساس بأهمية التغيرات الرئيسية في الدول المتقدمة نفسها يتخلل آراء العديد من الباحثين وعلماء السياسة الأذكياء الذين يشعرون بفقدان البدائل السابقة، ويفهمون جيداً صعوبة تحقيق الليبرالية في دول العالم الثالث، ويبحثون عن طرق جديدة لم يعثروا عليها بعد.. وفي هذا السياق يرى الاقتصادي الياباني سابورا أوكيتا أنه (في تلك الدول حيث ميكانيزمات السوق الحرة لا تستند إلى التقاليد والخبرة والتقانة الاجتماعية المناسبة.. يجب ببساطة تدخل الدولة، ويشدد على أنه أمر لا مفر من وجود مجتمعات فيها مزج معين بميكانيزم السوق إلى جانب تخطيط الدولة. وذلك لأسباب تاريخية.. ومع ذلك يجب الأخذ بالحسبان أن ميكانيزم السوق لا يعمل دوماً، وفي كل المجالات من دون عيوب).. ويتابع: لقد بدا لنا أن الديمقراطية سوف تحل بمجرد حصولنا على إمكانية التعبير عن أفكارنا بحرية، وقد حصلنا على ذلك.. ولكن الديمقراطية سوف تبقى مهمة المستقبل، وبدا لنا بمجرد تحررنا من (طوباوية) المساواة، أننا سوف نمتلك الحرية، وفي الواقع فقد امتلكنا لا مساواة عظيمة بين فئة صغيرة من الملاك حديثة العهد، وأغلبية الشعب المقموعة. أما الحرية الحقيقية فقد ظلت سراباً، بدا لنا أن السوق سوف تحل جميع مشكلاتنا، لكننا رأينا أن الطريق إلى اقتصاد السوق طويل وشائك.

إذاً.. هل يجب السماح بتحول العالم إلى تلك السوق الشاملة الواحدة التي يمكن أن يعمل فيها قانون الأقوى بهدف وحيد فحسب، ألا وهو كيف يمكن الحصول على أكبر ربح في أقصر وقت؟ ذلك العالم الذي يمكن للمضاربة فيه خلال عدة ساعات تدمير عمل ملايين النساء والرجال؟ هل يجب إعطاء مستقبل الأجيال لقوى المضاربة العمياء؟ هل يمكن إقامة نظام دولي على أسس التقدم، وقبل كل شيء على أساس التقدم الاجتماعي؟ أسئلة لا جواب عليها حتى الآن.

إن تطور البشرية في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين يؤكد أن شعوب العالم تقدر أصالتها وقيمها الروحية وثقافتها. العالم يستطيع، بل ويجب أن يكون واحداً وغير مجزأ، ولكن لا ينبغي أن يكون نموذجاً واحداً ونمطاً واحداً.. أما إذا كان غير ذلك فسوف يكفّ عن أنه عالم لأناس مختلفين ومتنوعين، إذ إن كل شعب وكل إنسان فريد وغير متكرر.

إن أحد الأهداف الرئيسية للتطور الديمقراطي يكمن في توسيع إمكانية الاختيار للناس وللشعوب، ومع التنوع الضخم للظروف الثقافية والحضارية والسياسية في العالم، فمن الضروري صياغة وإنجاز النماذج المتنوعة للتنمية والتي تعبر عن نزعة عالمية شاملة، كما تعبر بدقة عن التجربة التاريخية لكل دولة من دول كوكبنا.

العدد 1140 - 22/01/2025