من الذاكرة | من حياة رفاق مناضلين شيوعيين
يوسف فرحة:
دائماُ كنت أنظر الى عمل الشيوعيين بين الناس على أنه رسالة إنسانية عظيمة يجب أن تقرن القول بالعمل لتعطي مصداقية المناضل الشعبي والقائد الحقيقي. هنا بعض من حياة رفاق كان لي شرف العمل معهم وربطتني بهم علاقة صداقة ومحبة في مدينة حمص، وتقديراً لهؤلاء القادة الشعبيين الذين أعطوا المثل للأجيال القادمة، أسجل هذه الإضاءة على بعض المحطات من حياتهم النضالية وتجاربهم المريرة.
في المقدمة لابد من ذكر الرفاق مشهور غريبة ومطانيوس سليمان وعلي ربيع الذين قطعوا مئات الكيلومترات على الدراجة الهوائية والموتوسيكل في التنقل بين قرى الريف الحمصي شرقاً وغرباً للوصول إلى المنظمات الحزبية هناك وللوقوف على مشاكل الريف ومعاناة الفلاحين ونشر الفكر الشيوعي،- والرفيق عزيز غريبة الذي فتح بيته في ظل أقسى ظروف العمل السري ليكون مقراً دائماً لإقامة قيادة الحزب فيه مع عائلته ومتابعة العمل والنضال منه.
الرفيق راتب جبنة (أبو عبدو)
عامل النول اليدوي في الأربعينات من القرن العشرين لدى عائلة بيت الحفيان من عوائل حمص العريقة من حي باب السباع. كانت الأنوال في أرض قريبة من مدرسة الإنجيلية، كان رفيقاً لعامل النول الشيوعي رفاعي السبسبي، النقابي الأول الذي أسس نقابات عمال النول اليدوي بحمص عام 1946/ 1947التي انفصلت عن أرباب العمل، الى جانب أعضاء نقابة الحطة والزنار في حمص، ومنهم إبراهيم دعبول وتركي النعمان واليان تلجة وزكي النداف ومصطفى حبوس التي كانت تتبع لشيخ الكار لمهنة النسيج اليدوي. كان الرفيق راتب عضواً في الحزب الشيوعي السوري مكلفاً بقيادة العمل الحزبي في طرطوس، وكان متزوجاً وقد اضطر لاستئجار غرفة مع جيران، وهذه كانت من أصعب الظروف لعريس لم تستطع العروس التحرك في أرض الديار، لكن راتب جبنة العامل صاحب الدخل المحدود وعد عروسته بزيارة البحر ولم يتمكن من ذلك إلا بعد حين بسبب الظروف السياسية، ولما شاهدت زوجته البحر سألته: (هلأ هاي الجاموءة هي البحر؟!).
في أواخر الأربعينات كان يصلي في جامع المريجة بحمص، وكان إمام الجامع مصطفى السباعي – وهو مرشد الإخوان المسلمين- كرس خطابه في الهجوم على الشيوعيين الكفار أعداء الإسلام، فما كان من أبو عبدو إلا أن وقف وقال له: يا شيخ، صار لك من أول الخطبة وأنت تتهجم على الشيوعيين أنهم كفار لا يصلّون وتدعوا الى قتلهم، علماً أنني لم أرَك في أي من المظاهرات ضد الرغيف الأسود وضد الجوع – وهذا أنا شيوعي وأصلي، لكن الصلاة خلفك حرام! وخرج أبو عبدو من المسجد وصياح السباعي خلفه: اقتلوه! شيوعي كافر، اقتلوه! وطبعاً لم يتعرض أحد للرفيق راتب لمعرفة أهل الحي به وبأخلاقه. كما حاول الأمن القبض عليه مراراً وكان يهرب ويلاحقه رجال الأمن في شوارع حي باب السباع وهم يصرخون: حرامي حرامي! وهو يصيح أنا شيوعي شيوعي! فكان الناس يغطّون عليه لحمايته من الاعتقال.
وكان أبو عبدو واحداً من الشيوعيين الذين اعتقلهم الأمن في حمص وقرروا أخذهم الى دمشق مشياً على الأقدام وكانت مسيرتهم صعبة جداً حتى منطقة النبك، وكانوا يرددون شعارات خبز وسلم وحرية، ولم يستكينوا أو يخافوا، لكنه في سجنه الأخير في عهد الوحدة السورية المصرية، انهار عندما لجأ الأمن الى الأساليب الحقيرة، فقد هددوه باغتصاب زوجته أمام عينيه وكان يبكي عندما تخطر على باله هذه الحادثة اللئيمة. هذا القائد الشيوعي المناضل الذي ترك إرثاً نضالياً لايمحى لأجيال من بعده عاش شريفاً بين شعب أحبه ولن ينساه، لروحه الخالدة السلام ولذكراه الوفاء.
الرفيق سعيد القواس
هذا الشيوعي دخل سوق العمل باكراً ابن الاثني عشر عاماً، فعمل في شركة سكر حمص وسُرّح، ثم عمل في شركة المصابغ وحاول مع رفيقه نديم النرشة تأسيس نقابة عمالية كانت سبباً في تسريحهما معاً. كانت معيشة العمال الصعبة طريقاً مبكراً إلى الشيوعية. اعتُقل الرفيق سعيد أيام الوحدة في سجن البولوني التابع للشرطة العسكرية بحمص، لكن قراراً صدر بإخلاء سبيله وحده مما جعله يتساءل عن سبب ذلك، وعندما سأل أخاه الأكبر أعلمه أنه كتب باسمه قرار انسحاب من الحزب الشيوعي السوري، فأُطلق سراحه. استنكر الرفيق أبو فواز ما فعله أخوه وما كان منه إلا أن عمل بيان أنه مازال عضواً ملتزماً بالحزب الشيوعي السوري وأن لا علاقة له بالبيان الذي يعلن انسحابه ووزع البيان في أحياء حمص وهرب الى لبنان.
في لبنان اضطر سعيد للعمل في الإسفلت وغيره من الأعمال الصعبة لتأمين معيشته حتى الانفصال وتمكنه من العودة الى سورية. عاد للعمل في مجال النقل كسائق سيارة تكسي ثم انتسب الى نقابة عمال النقل البري ممثلاً للحزب الشيوعي السوري. حارب الفساد وكان مثالاً للنزاهة ومدافعاً عن قضايا الطبقة العاملة حتى آخر حياته.. لروحه الخالدة السلام.
الرفيق المحامي موريس صليبي
واحد من القيادات الشعبية التاريخية للحزب الشيوعي السوري. كان محامياً لامعاً سخر مكتبه وحياته للحزب دفاعاً عن مصالح الكادحين، عمل في كل العهود السرية واستطاع أن يتخفى عن عيون الأمن الذي كان يلاحقه لاسيما في مرحلة الوحدة التي ساد فيها جو الاعتقالات الشعواء على الشيوعيين وأصدقائهم. في أوائل الثمانينات وأثناء ترشيحه لعضوية مجلس الشعب وعدم اعتماده في قائمة الجبهة الوطنية التقدمية بسبب اعتراض الحزب على سياسة البعث وإصدار الحزب بيان يؤكد فيه ضرورة احترام كرامات الناس وتلبية حقوق الشعب، وأثناء جولتنا في الريف الغربي لمدينة حمص من أجل انتخابه، أخبرنا الفلاحون بأنهم يعرفونه أبو علي الذي كان يوزع جريدة الحزب بين أكياس الحطب. كما دافع عن فلاحي منطقة تلكلخ بوجه الدنادشة الإقطاعيين وتم تحصيل حقوقهم بمساعدته. وقد حصل الرفيق موريس على أصوات هامة من الريف والمعامل والشركات بفضل سمعته الطيبة وشعبيته الواسعة. حدثني الأستاذ وجيه الكردي الذي كان معتقلاً معي في سجن حمص المركزي عام 1985 بتهمة انتمائه لحزب التحرير الإسلامي، أن الرفيق موريس صليبي كان يعيش في بيتهم في حي باب الدريب بحمص متخفياً بلباس خوري لفترة طويلة خلال أيام الوحدة يتابع نشاطه في قيادة العمل الحزبي رغم كل المخاطر.. لروحه السلام.
أيقونة الشيوعيين في مدينة السلمية
الرفيق طالب الكوردي (أبو محمد)
كان يخدم في الجيش الفرنسي في طرابلس لبنان، قائد فصيل رشاش، جرى نقلهم الى دير الزور للتصدي للمظاهرات الشعبية من أجل الاستقلال، تمرد مع عدد من العساكر وأخذوا قراراً بأن لا يطلقوا النار على المتظاهرين، فصدر فرار تسريحه كمتقاعد بعد محاكمته، وسجن آخرين، انتسب الى الحزب الوطني في طرابلس لبنان، ثم تعرف على عتال كان يسكن في بيته لاحظ عليه أنه يحضر الكتب معه ويقرأ الكثير رغم فقره وكان شيوعياً، وبعد نقاشات مع هذا الرفيق المثقف الكبير وكان اسمه إبراهيم العموري من مصياف عرّفه على مكتب الحزب الشيوعي السوري اللبناني في منطقة التبانة بطرابلس، فوجد هناك العامل والمحامي والأستاذ والكل ينادي الآخر رفيق. أعجب بهذه العلاقات والنقاشات بين الرفاق فقدم انتسابه للحزب عام 1942-1943 شارك في المظاهرات التي كانت تتوالى من أجل الاستقلال حتى ألقي القبض عليه وهو في احدى المظاهرات وسجن في سجن الرمل في طرابلس في ظل حكومة فيشي التي استلمت المواقع العسكرية في لبنان. استمر بالعمل الحزبي في طرابلس وشارك في المظاهرات في بيروت تعرف على الرفيق رفيق رضى – رأفت- لكنه كان حذراً منه – عندما جاء وفد من الحزب من سورية كلف مع لجنة حماية الرفيق خالد بكداش الذي جرت محاولة الاعتداء عليه بسكين تصدى لها الرفيق طالب بجسده، فنقل الى المشفى. كانت زوجته الأولى شيوعية نشطة وزوّجته من رفيقة أخرى، إذ كنِ يشاركن في المظاهرات النسائية ويوزعن المناشير والملصقات على الجدران. كان بيت أبو محمد طالب الكردي مركزاً للخيزرانات التي كان الشيوعيون يتسلحون بها في مواجهة الشرطة والقوات الحكومية التي كانت تجندها ضد الشيوعيين.
عام 1945 بعد أن هُدد بالقتل طلب منه الحزب الذهاب إلى سورية، فانتقلت عائلته إلى مدينة السلمية ثم التحق بها عام 1947 – 1948- كان المناخ السياسي في السلمية مؤات بشكل عام لتأسيس الحزب بسبب الأجواء الإيجابية عن نتائج الحرب العالمية الثانية وانتصار الاتحاد السوفييتي على الفاشية الألمانية. تعرّف هناك على أوائل أنصار الحزب الشيوعي الرفيق علي دياب عيسى الذي كان قادماً من العراق ويحمل الفكر الشيوعي وبدأا معاً التنسيق لتأسيس منظمة الحزب في السلمية، فكان أوائل الرفاق الذين انضموا الى الحزب: راتب خلوف وعلي خلوف ورتيبة خلوف أختهم ومحمد وإسماعيل عجوب أبو الخير وكذلك أحمد اشتيان عامل المخرطة ثم انتسب من آل زعير محمد عبدو زعير وآخرون، ثم نايف حمودة محمد علي عجوب المحامي وأخواه نزار وإسماعيل وأحمد طنجور وإسماعيل عيد وعزيز الحصري.
بين عام 1948 وحتى عام 1954 توسعت منظمة الحزب، فدخل الرفاق محمد طنجور وفايز طنجور وصلاح فرحة وخضر فرحة وآخرون. عندما سقط أديب الشيشكلي هُدد الرفيق طالب بحرق دكانه الذي تحول الى مكتب للحزب الشيوعي فاضطر لإغلاقه، وأثناء الانتخابات الديمقراطية عام 1954 وكان هناك مرشحون من شخصيات سلمونية بارزة – مصطفى تامر ومصطفى ميرزا وسامي الجندي يوسف أبو حمود جمال الشعراني، وبعد أن تبين أن مرشح الشيوعيين في سلمية الرفيق محمد عجوب كان في الخدمة العسكرية، لذلك دعموا مرشح الحزب الدكتور بدر الدين السباعي من حمص ويومئذٍ سكن في سلمية في بيت الرفاق علي خلوف واخوته. كانت مرحلة الانتخابات مرحلة نشاط كبير للشيوعيين في المدينة والريف السلموني حيث كان يوجد 14 رفيقاً ورفيقة شيوعيون يقودون عملية الانتخاب، إلى جانب عدد كبير من الأصدقاء للحزب، حصل الشيوعيون على 450 صوتاً لصالح الحزب، وصارت علاقات واسعة مع الريف تحولت الى انتسابات ومنظمات تشكلت في معظم القرى والريف السلموني حيث وصل عدد المشتركين في جريدة النور إلى 75 مشتركاً كان يوزعها الرفيق الدكتور أحمد ابن الرفيق طالب الكوردي عام 1957 – 1958 وصار الحزب أضعاف ما كان عليه.
– بعد صدور بيان إعادة النظر بالوحدة من الحزب جرى اعتقال الرفيق محمد طالب الكوردي الإبن الأكبر للرفيق طالب وهدد مع أخيه الرفيق أح،مد فذهبوا الى حمص ثم إلى لبنان حيث عمل الرفيق طالب في الطرقات وتكسير الأحجار وغيرها من الأعمال الشاقة. بعد ثلاث سنوات عاد الى السلمية وجرى إعادة ترميم التنظيم بمساعدة الرفاق أحمد شتيان واسماعيل عجوب أبو الخير وأخيه محمد وكذلك الرفاق محمد معروف الجرف ومحمد زينو وعابد سيفو ووليد فارس وأعيد تشكيل فرعية السلمية، وكانت الرفيقة فايقة المير مسؤولة التنظيم النسائي في السلمية – عمل في خدمة الجامع القريب من بيته وعند وفاته لم يشفع له عندما أصر الرفاق على وضع العلم الأحمر على نعشه فرفض الإمام الصلاة عليه حتى وضعوا غطاء آخر شارك في جنازته كل الشيوعيين لروحه السلام.
الشيوعيون هم ضمير العصر وسيبقى تاريخهم النضالي جزءاً من تاريخ حزبهم وتاريخ سورية العظيم ضد الاستعمار وبمواجهة الديكتاتوريات من أجل وطن حر وشعب سعيد لتبقى سورية مستقلة موحدة لكل أبنائها.
عاشت الذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعي السوري العظيم!
15 تشرين الأول (أكتوبر) 2024