الهرمنيوطيقا.. أساس النظرية البنيوية

يونس صالح:

إن الاهتمام باللغة والبناء اللغوي، وتأويل النص وتفسيره، يعرف باسم الهرمنيوطيقا، وهي حركة فكرية ترتبط بالفكر الألماني، وإن كانت أصولها الأولى ترجع إلى عصور سابقة. وتضم هذه الحركة الفكرية أعداداً من المفكرين من أمثال بول ريكو، الذين يغلب عليهم الطابع الأكاديمي الذي يختلف تماماً عن الطابع الذي كان يميز حياة المفكرين السابقين عليهم، والذين كانوا يشغلون أنفسهم بمشكلات الإنسان والمجتمع، ويشاركون في أحداثه الاجتماعية والسياسية.

وتطلق كلمة هرمنيوطيقا في العادة على الاتجاهات المختلفة التي يعتنقها بعض الفلاسفة والمفكرين الذين يعطون اهتماماً خاصاً لمشكلات (الفهم) و(التأويل) أو التفسير.. فالكلمة تصدق إذاً على نظرية التفسير ومناهجه، واللفظ اليوناني المستمدة منه الكلمة يشير في وقت واحد إلى عملية الكلام وعملية التفسير، مما قد يعني أن الكلام هو طريقة (يفسر) بها الشخص أفكاره للآخرين، وإن كانت الهرمنيوطيقا تعني في الاستعمال الفلسفي والأكاديمي تفسير النصوص.

وقد ارتبطت الهرمنيوطيقا في البداية بمحاولات تفسير أعمال هوميروس والشعراء الإغريق، وبذلك ارتبط التفسير بالفيلولوجيا (علم اللغة) وبنقد النص، ثم انتقلت المحاولة إلى تفسير النصوص المقدسة.. فالحركة بدأت إذاً على أيدي علماء الكلاسيكيات واللاهوت الذين حاولوا وضع قواعد تحكم التفسير الصحيح للنصوص الكلاسيكية والدينية الأساسية، ولكنها لم تلبث أن اتسعت وامتدت لتشمل النصوص الأدبية وغيرها، بل وتجاوزت هذا المجال إلى مجالات علم النفس والاجتماع والأنثروبولوجيا والتاريخ وبقية العلوم الإنسانية، على أساس أن الحياة الإنسانية عملية تضفي معنى على الأشياء، ولذا تحتاج إلى أن تُقرأ بقصد الفهم والتأويل والتفسير.

وبقول آخر أبسط وأوضح فإنه يمكن تعريف الهرمنيوطيقا بأنها (فن القراءة) أي فن حلّ النصوص وتفكيكها وتفسيرها، والكشف عن معانيها، والذي أضافه المفكرون الهرمنيوطيقيون المحدثون هو أنهم عملوا على مد فكرة (النص) إلى كل مجالات الوجود الإنساني، واعتبار الحياة الإنسانية ذاتها نوعاً من النص- أو على الأصح شيئاً يشبه النص- الذي يمكن قراءته، على أساس أن الحياة تجسّد معنى – من حيث المبدأ- يمكن توضيحه وإبرازه، وأن ذلك يتحقق بطريقة تشبه الطريقة التي يفسر بها التحليل النفسي معنى الأحلام.

ويقوم منهج التفسير في أساسه على افتراض أن الكلام له معنيان، أحدهما هو المعنى الظاهر، والآخر هو المعنى الخفي أو المستتر أو الباطن، مما يعني أن اللغة لها هي أيضاً وظيفتان، إحداهما هي التعبير، والأخرى وظيفة رمزية تتطلب البحث عما ترمز إليه. وقد أدت هذه التفرقة إلى قيام اتجاهين كبيرين في التفسيرين: الاتجاه نحو استرجاع المعنى وإعادة بنائه، وهو الذي يتبعه رجال الدين الذين يهتمون باسترجاع المعنى الأصلي للرموز في الكتب الدينية، والاتجاه الآخر يقوم على الشك ويضم مفكرين كثر، ممن يهتمون بتحليل المعنى أو تجزئته، وليس تجميع الأجزاء كما هو الشأن في الاتجاه الأول، وردّ ذلك المعنى إلى عوامل ودوافع كامنة خفيّة.

العدد 1140 - 22/01/2025