العالم في ربع الساعة الأخير

د. نهلة الخطيب:

العالم والأمريكيون كانوا ينتظرون المناظرة بين المرشحين إلى البيت الأبيض: الديمقراطية كاميلا هاريس، والجمهوري دونالد ترامب، وأن يتعرفوا بشكل كامل على رؤى كلٍّ الطرفين، ولكن المسألة كانت أشبه بخطابات لقواعد سياسية لكلا الحزبين، ولم تكن هناك تفاصيل دقيقة عن مشاريع مستقبلية سواء من ترامب أو هاريس، فالاثنان تحدثا في أُطر عامة ولم نشهد ضربة قاضية من طرف تجاه الأخر، ولكن يمكن القول إن ما انتظره الأمريكيون هو مشاهدة أداء هاريس في اختبارها الأول، وقد نجحت هاريس نسبياً، وكانت ندّاً لترامب، صاحب الخبرة الطويلة في هذا المجال، الكل يعرف أن ترامب محاور مخضرم وكثير الظهور في وسائل الاعلام والمؤتمرات الصحافية، وله تجارب في مناظرات سابقة وهذه مناظرته السابعة.

تحدثت هاريس عن المستقبل ودعت إلى طي صفحة الماضي بإشارة إلى كلٍّ من بايدن وترامب (لن نعود إلى الوراء)، هي تعتقد أنها تجاوزت هذا الاختبار، بتنفس الصعداء بعد الكارثة التي حلت ببايدن في مناظرته السابقة وعجلت بانسحابه، والرهان الآن على الديمقراطيين، وكاملا هاريس أن تخلفه في البيت الأبيض، مما جعلها تدعو إلى جولة جديدة من المناظرة، رفضها ترامب لخوفه منها ولضعف يعاني منه. لم يتحدث ترامب وهاريس عن التوترات الدولية باستثناء مداخلة قصيرة لهاريس عن حرب غزة.

ونبدأ بالسؤال كما ترامب، أين كانت هاريس من التصعيد غير المسبوق للصراع في الشرق الأوسط ووضعه على شفا حرب إقليمية؟ وماذا عن أوكرانيا؟!

في بداية الحرب الروسية الأوكرانية كانت هاريس مسؤولة عن التفاوض المباشر مع أوكرانيا واحتمالية ألا يكون هناك تمديد للصراع، (وبدايته أصلاً)، وفشلت هي وبايدن وأدخلا العالم في أتون حرب غير مباشرة بين روسيا وأوربا، خسر فيها الاقتصاد العالمي والأمريكي بالأخص عشرات المليارات مع ارتفاع نسبة التضخم ونسبة الفائدة والهجرة غير الشرعية، وزاد التصعيد القائم الآن بالتسلح والتهديد من كلا الطرفين، من جهة التهديدات الروسية مستمرة والحديث الآن عن صواريخ بالستية وصلت إلى روسيا، مقابلها صواريخ بعيدة المدى أمريكية وبريطانية.

ولكن بايدن بنهاية ولايته وبعد انسحابه من السباق الرئاسي، صرح بعدم السماح لكييف باستخدام صواريخ بعيدة المدى ضد موسكو، ورمى الكرة في ملعب الأوربيين، في رسالة موجهة إلى أوربا (ولكن أنتم أحرار إذا أردتم ذلك)، هو يريد أن يقول إن الهامش ليس كبيراً، وعلى الأوربيين أن يتحملوا مسؤولياتهم، وهذا واضح للأوربيين وحلف الناتو الذين استعدوا منذ فترة إلى احتمال عودة ترامب، وربما هو تفسير للتصعيد غير المسبوق للصراع في أوكرانيا، أو في غزة، أو حتى في المنطقتين في آن واحد، مع الانخراط الحتمي للقوات الأمريكية بشكل أو بآخر في هذه الصراعات.

التهديدات الروسية الجادة ستجعل الأوربيين يعيدون النظر في موضوع السماح لأوكرانيا باستهداف العمق الروسي أم يصرّون أكثر على قرارهم؟! كله مرتهن بالانتخابات الأمريكية، وها نحن في ربع الساعة الأخير لنهاية هذه الحرب، إما حرب عالمية، وإما جولة تبدأ بعدها جولة أخرى، والأوربيون ليس لديهم الكثير لفعله في هذا الموضوع، فألمانيا صرحت مؤخراً بأنها ستقلص مساعداتها العسكرية لأوكرانيا، وبقية الدول الأوربية بدت تئن تحت ثقل المساعدات إلى أوكرانيا سواء العسكرية أو غيرها، وبالتالي أوربا غير قادرة، إذا انسحبت أمريكا مع قدوم ترامب، على الاستمرار، ما يجعلهم يخسرون هذه الحرب الذين استثمروا فيها كثيراً، والآن الأمور شبه معلقة إما أن تأخذ ادارة بايدن قراراً معيناً لتحقق انتصاراً لأوكرانيا، وهي تدرك أن قدوم ترامب إلى السلطة سينهي هذه الحرب لمصلحة بوتين، وإذا فازت هاريس سيكون نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة ستنتهي بالمفاوضات، الوقت إذاً يخدم روسيا ولا يخدم أوربا، ولا يوجد وقت كافٍ، فأمريكا منشغلة بهذه الانتخابات غير المسبوقة، ومن سيدفع الثمن هو الأوربيون، ربما يحدث انقسام داخل أوربا، حالياً هناك انقسامات كبيرة فيها، فالمجر معارضة لمجموعة من قوانين أصدرها الاتحاد الأوربي، وما تحدث به بوريل حول إرسال مساعدات عسكرية أو إرسال قوات إلى أوكرانيا (أمر يتعلق بسيادة كل بلد)، وتنصل (كما تنصل بايدن) من مسؤولية الاتحاد الأوربي تجاه الحرب، وترك الأمر على عاتق الدول والوقت على حساب الجميع، وبوتين له الأفضلية في حال تغيرت الإدارة الأمريكية، وهذا ما أكدته هاريس في مناظرتها مخاطبة ترامب (حلفاؤنا في الناتو ممتنّون للغاية لأنك لم تعد رئيساً، وإلا كان بوتين يجلس في كييف، وعيناه على بقية أوربا). بوتين لا يزال قادراً على الصمود، يتقدم في دونباس ويمكنه استعادة كورسك، وبالتالي لديه أوراق أفضل للتفاوض، وهو الذي دعا للتفاوض بإبقاء الأمور كما وصلت إليه، بمعنى ضمّ أراضي دونباس، إذاً الأمر على حساب أوكرانيا، وهذا ما دفع زيلنسكي إلى السماح بضرب العمق الروسي وإنقاذ الوضع، فالوضع محسوم في جبهات دونباس لصالح روسيا.

بعد سنة، وبعد التدمير الهائل في قطاع غزة وحرب الإبادة غير المسبوقة لم تستطع إسرائيل السيطرة العسكرية، وكيف نجحت المقاومة بعد طوفان الأقصى بتحقيق ضربة صاعقة، ظهرت إسرائيل فيها ضعيفة ومرتبكة، ثم عدم قدرتها على حسم الحرب التي تعد أطول حروبها، مما جعل التدخل الأمريكي المباشر محتوماً وبالطاقة القصوى وعدم الاكتفاء بإسرائيل، وهناك توقعات أن تكون هاريس رحيمة بالفلسطينيين بعد تعهّدها (بإنهاء الحرب فوراً والتزامها بحل الدولتين وإعادة إعمار غزة)، ولكنها ستكون مثل أسلافها في الإدارة، فكل سياسي ناجح عليه تغيير جلده، هي مع إسرائيل قلباً وقالباً، فهل تغير شيء اليوم بعد حرب الإبادة التي تمارس ضد الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية لدى الرأي العام الأمريكي؟! شاهدنا التظاهرات ضد ممارسات إسرائيل في غزة ورفض المحتجين للانحياز الأمريكي المطلق لها، ولكن بالمحصلة لم يحصل تغير حقيقي وملموس لدى الإدارة الديمقراطية نحو إيقاف الحرب أو تقليل المساعدات لإسرائيل، فضلاً عن الدعم المطلق سياسياً في المؤسسات الأممية وتعطيل إجماع الشرعية الدولية في مجلس الأمن. ما من شك أن أمريكا تصنع التوتر في كل أنحاء العالم، وهاريس جزء من هذه السياسة. فأين هاريس من القضية الفلسطينية؟؟ هذه القضية لم تُحلّ ولن تحلّ على أيدي الإدارة الديمقراطية، وحتماً لن تُحلّ على أيدي الجمهوريين، ففي الحلبة الأمريكية يتنافس شخصان يثيران الخوف والمخاوف على العالم، الذي يستحق الأفضل.

العدد 1140 - 22/01/2025