خراب البصرة
عبد الرزاق دحنون:
شاهدتُ مؤخراً فيلم (المرأة الحديدية) الذي مثَّلتْ فيه النجمة الأمريكية ميريل ستريب شخصية رئيسة الوزراء البريطانية مارجريت تاتشر، وذكَّرني هذا الفيلم عن ابنة البقَّال -كان والد مارغريت تاتشر بقالاً-بقصة طريفة وردت في كتاب (حياة الحيوان الكبرى) للشيخ كمال الدين الدميري تقول: أرق الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان ذات ليلة، فاستدعى سميراً له يحدثه، فكان فيما حدثه به أن قال: يا أمير المؤمنين كان بمدينة الموصل بومة وبالبصرة بومة، فخطبت بومة الموصل إلى بومة البصرة بنتها لابنها، فقالت بومة البصرة: لا أفعل إلا أن تجعلي لي مهرها مئة ضيعة خراب، فقالت بومة الموصل: لا أقدر على ذلك الآن، ولكن إن دام حكم والينا سنةً واحدة أخرى، فعلت لك ذلك. كان السمير فدائياً، لأن الراوي يقول: إن الخليفة عاد إلى رشده وجلس للمظالم وأنصف الناس بعضهم من بعض وتفقّد أمور الولاة قبل خراب البصرة والموصل.
على أن المرأة الحديدية حين انتصرت في أيار عام 1979على حزب العمال عقدت العزم على (خراب البصرة) وخلق مجتمع بريطاني يحكمه الأغنياء، يزداد فيه الأغنياء غنىً والفقراء فقراً. وقد استرشدت بأفكار عالم الاقتصاد النمساوي (فريدريش فون هايك) صاحب الكتابين الأشهر: (الطريق إلى العبودية) و (الغرور القاتل)، والذي كان من أهم المفكرين الاقتصاديين الذين أُعجبتْ بمقترحاتهم. وتتلخص أفكاره الأساسية في إلغاء الدعم المالي عن المؤسسات الحكومية وتقليص مدفوعات الرعاية الاجتماعية للعمال وخفض معدلات الفائدة والعمل على خفض معدل التضخم على حساب الشعب وتحرير السوق من سلطة الدولة. وحين اعترض أحد نواب مجلس العموم البريطاني على برنامج الإصلاح المتطرف الذي تسير عليه حكومة تاتشر أخرجت المرأة الحديدية من حقيبة يدها مؤلف هايك (دستور الحرية) وقالت: إن هذا هو ما نؤمن به.
نظرت تاتشر إلى رئيس نقابة عمال المناجم على أنه العدو الأول. وكان آرثر سكارغيل زعيماً شيوعياً عمالياً يقود أكثر النقابات العمالية البريطانية عدداً وقوة. فرضت تاتشر على البلاد رأسمالية متوحشة فتكت بالعمال والفقراء ولم يسبق لأي دولة صناعية أن شهدت مثيلاً لها من قبل. وقد شاهد العلامة البغدادي هادي العلوي في لندن الشرطة البريطانية، في تلك الأيام، تسحب المضربين من أنوفهم. وهي طريقة تستعمل للسيطرة على البعير أو الثور الهائج.
أقدمت تاتشر في السادس من آذار عام 1984 على إعلان الحرب المفتوحة على نقابة عمال المناجم. أعلنت الحكومة في البداية عن إغلاق عشرين منجماً من المناجم الحكومية. وأعلن رئيس نقابة عمال المناجم الإضراب المفتوح عن العمل. اندلع نزاع لم تشهد بريطانيا مثيلاً له طوال تاريخها الحديث. استخدم المضربون عن العمل كل ما توفر لهم من إمكانيات متواضعة بين أيديهم، لكن تاتشر كانت تبيِّت لخطب جلل، فقد اتهم العديد من السياسيين المحافظين قادة النقابات العمالية بأنهم يريدون تحويل بريطانيا إلى دولة وضيعة، بائسة، على غرار دول المعسكر الاشتراكي.
كانت حكومة تاتشر قد أعدت العدّة ولبست قناع الحرب المقيت، خزّنت احتياطياً كبيراً من الفحم الحجري لكسر طوق الإضراب المتوقع اندلاعه بعد إعلان تصفية بعض المناجم ومضت قدماً في سد حاجة البلاد إلى الطاقة من خلال البترول والطاقة النووية. وبعد إضراب عن العمل دام أكثر من خمسين أسبوعاً، توقفت النقابات العمالية عن الإضراب وأعلنت الاستسلام.
حوصر العمال وضاقت بهم الأرض حتى لم يعد لهم غير موضع أقدامهم. تراكمت عليهم الديون. وفقدوا القدرة على الاستمرار في الحياة. وكان موقف الحكومة يختلف عن موقف التنظيمات النقابية. ومع حلول أعياد الميلاد ورأس السنة دفعت الحكومة لكل عامل لا يشارك في الإضراب مكافأة مالية وحررت هؤلاء العمال من دفع الضرائب لعدة أشهر. وبهذه التسهيلات حطَّمت حكومة تاتشر إرادة المضربين عن العمل.
كسرت رئيسة الوزراء شوكة النقابات العمالية البريطانية التي كان عددها يزيد عن الخمسمئة نقابة بفظاظة لم يشهد التاريخ لها مثيلاً. خسرت نقابة عمال الفحم أكثر أعضائها. وفي ظني كان للفشل الذي أصاب إضراب عمال مناجم الفحم نتائج تجاوز تأثيرها حدود بريطانيا. فقد ساهم بتقويض سلطان النقابات العمالية العالمية أيضاً. وأوضحت المرأة الحديدية أن بالإمكان الوقوف بوجه سلطة النقابات. إنَّ الهجوم الشرس الذي شنته حكومة مارغريت تاتشر على دولة الرعاية الاجتماعية وسَّع فرص الأغنياء في امتلاك الثروة وبالتالي وسع الهوة في الدخل بين من يملك ومن لا يملك.