من أرسطو إلى النفس الحيوانية في الإنسان

د. أحمد ديركي:

أرسطو واحد من عظماء فلاسفة العالم، ورغم أنه عاش منذ أكثر من ألفي عام، إلا أن فكره ما زال، في جزء كبير منه، راهناً حتى اليوم. ومنتج الفكر لا يموت، لذا حتى تاريخه لم يمت العديد من عظماء الفكر، والذي يموت فكره يموت. فقد عرف تاريخ البشرية العديد من المفكرين، ولكن قلة منهم ما زالوا، بفكرهم، أحياء. ويبدو راهناً أن المفكرين أصبحوا عملة نادرة في هذا العالم، وأحد أسباب ندرتهم حالياً يعود إلى أنهم تسلّعوا. فأصبح إنتاجهم الفكري سلعة للبيع في سوق سلع الفكر، ومن يملك أكثر يمكن أن يتملك لا المفكر، بل وسيلة إنتاج الفكر، أي أن المفكر يتحول هنا إلى وسيلة إنتاج يملكها من يدفع ثمنه، وما أكثر الأمثلة على هذا حالياً!

نعود إلى أرسطو الذي لم يتسلّع. أرسطو فيلسوف أنتج فكراً شاملاً، قارب فيه تقريباً كل أبعاد الفكر البشري، ولن نذهب هنا إلى كل هذه الأبعاد، بل سوف نكتفي بنقطة واحدة فقط.

حاول أرسطو البحث والتفكير في النفس البشرية، ووصل إلى استناج مفاده: النفس البشرية تتألف من ثلاث أنفس، وهي:

  • النباتية،
  • الحيوانية،
  • العاقلة، أو المفكرة، بمعنى العقل.

والسعادة هي سعادة العقل لا الملذات الزائلة.

النفس النباتية: هي تلك النفس التي تتغذّى وتنمو وتتكاثر. وهذا ما نشهده في النبات، في عملياته البيولوجية. إن فقدت إحدى هذه الصفات يفقد النبات وجوده.

النفس الحيوانية: تتضمن النفس النباتية، فالحيوان يتغذّى وينمو ويتكاثر، ولكن هناك صفات أخرى يجب أن تضاف إليه ليصبح حيواناً. وهذه الصفات هي الحركة والإدراك الجزئي. فالحيوان يتغذّى وينمو ويتكاثر ويتحرك ويدرك الجزئيات. أي هناك صفتان إضافيتان يجب أن توجدا في هذا الكائن الحي كي يكون حيواناً، وهما الحركة والإدراك الجزئي. القضية هي ما هو الإدراك الجزئي؟ تعني أن الحيوان لا يدرك الكليات بل يدرك الجزئيات. وكي تتحقق عملية الإدراك لا بد من وجود (عقل)، والعقل لعدم إدراكه الكليات يبقى غير مكتمل، ويكتمل عندما يدرك الكليات. فعلى سبيل المثال الحيوان يدرك أن هناك عدو. الغزال يدرك أن مفترسه حيوان آخر آكل اللحوم، كالنمر على سبيل المثال. ويدرك أن الحيوانات النباتية ليست عدوة له. لكن الغزال لا يدرك ما هي العداوة. فعندما يكون الحيوان المفترس، آكل اللحوم، في حالة شبع إلى حدّ ما تنتفي العداوة بينهما، لأن الحيوان المفترس يفترس الغزال في حالة الجوع، وفي حالات معينة أخرى. وطبعاً هناك مفاهيم كثيرة أخرى لا يدركها الحيوان، لعجزه عن إدراك الكليات، مثل: العائلة، الصداقة… لأن هذه المفاهيم كلية. وكثيراً اليوم ما نطلق على طبيعة هذه العلاقة مصطلح (قانون الغابة). وهو مصطلح غير صحيح لأننا عند استخدامه نعني (الافتراس) أي لا قانون، بينما للغابة قانونها المنظم لها ولا يقوم فقط على مفهوم (الافتراس)، بل يخضع للقوانين الطبيعية الناظمة لكل ما هو موجود.

النفس البشرية: هي تلك النفس التي تتضمن النفس النباتية والحيوانية والبشرية أي العاقلة. فالإنسان مثل النبات، يتغذى وينمو ويتكاثر، ومثل الحيوان، المتضمن للنفس النباتية، يتحرك ويدرك، وهنا الفارق بين النفس البشرية والنفس الحيوانية. فالحيوان يدرك الجزئيات بينما الإنسان يدرك الكليات، والكليات تتضمن الجزئيات والعكس غير صحيح. فالعقل يكتمل هنا عند النفس البشرية بإدراكه الكليات. ومن خلال كلياته يدرك الأمور بشكل أكمل ويسعى إلى تحقيق (السعادة)، بالمفهوم الأرسطي. فالنفس البشرية تدرك معنى (العداوة) (الصداقة) (العائلة) (السعادة)… وتسعى إلى تحقيق هذه الكليات.

هكذا قسم أرسطو النفس البشرية إلى نفس نباتية، ونفس حيوانية، ونفس بشرية.

ويبدو أن تقسيم أرسطو صحيح، رغم مرور أكثر من 2500 سنة على هذا التقسيم. لكن هناك ثغرات تتوضح راهناً في هذا التقسيم. والذنب هنا ليس ذنب أرسطو لانه لم يدركها، بل نحن نحاول قراءة أرسطو بعد مرور أكثر من 2500 سنة، ويجب أن نأخذ بعين الاعتبار كل التطورات التي لحقت بالعقل البشري خلال هذه الفترة. ليس من السهل الإلمام بها، بل يمكن تلخيصها بأمر واحد وهو نشوء نمط الإنتاج الرأسمالي وتجذّره حتى هيمن على العالم.

الثغرة التي ظهرت في عملية تقسيم أرسطو، راهناً وتتبلور يومياً، هي أن إنسان نمط الإنتاج الرأسمالي قد تسلّع. والتسليع يعني فقدان العقل، وفقدان العقل يعني العودة إلى النفس الحيوانية المتبقية في الجسد البشري. أو كي لا نقول (فقدان)، يمكن أن نقول بخفوت قوتها إلى حد هيمنت فيه النفس الحيوانية على النفس البشرية.

لا يمكن أن نلوم أرسطو على هذه الثغرة، فنحن اليوم نحاول قراءة فكره بعد مرور ما يزيد عن 2500 سنة. وبالتأكيد لا يمكن أن نلم بكل التطورات التي حدثت منذ ذلك الوقت حتى الآن، لكن يمكن أن نختصر الأمر بعبارة لم يكن أرسطو موجوداً في زمن نشوء نمط الإنتاج الرأسمالي وهيمنته على العالم. نمط سلّع الإنسان وضمناً إنتاجه الفكري. فكل ما نشهده اليوم من تطورات علمية وتقنيات وأدوات، نستخدمها يومياً في حياتنا اليومية، من الهاتف النقال إلى السيارة إلى الطائرة، إلى الكومبيوتر… كلها نتاج فكر الإنسان. لكن السؤال، ضمن نمط الإنتاج الرأسمالي، لماذا كل هذا الإنتاج؟ ومن يملك وسائل الإنتاج؟ أهو لسعادة البشرية بالمفهوم الأرسطي، ما دام الموضوع عن أرسطو؟ أم لأمر آخر؟

الهدف الرئيسي في نمط الإنتاج الرأسمالي هو تحقيق المزيد من الربح لمالكي وسائل الإنتاج، وصولاً إلى تسليع الإنسان، وضمناً نتاجه الفكري. فالإنتاج الفكري أصبح سلعة في سوق سلع الإنتاج الفكري. وما دمنا سلعة فإن النفس البشرية تنحدر إلى أدنى درجاتها الوجودية.

لتوضيح مستوى انحدار النفس البشرية، وهيمنة النفس الحيوانية التي يعمل نمط الإنتاج الرأسمالي على تعزيز هيمنتها.

اليوم هناك قضية بشرية محققة تتحقق من خلالها النفس البشرية، بالمفهوم الأرسطي، ألا وهي القضية الفلسطينية.

فلسطين بلد له وجوده الواقعي، يعيش فيه سكانه، لكن نمط الإنتاج الرأسمالي أراد أن ينشئ له قاعدة عسكرية تخدم مصالحه في عالم السوق، فطرد أهلها منها وأقام بها كياناً غريباً عن الأرض وسكانها، كياناً مصطنع اسمه الكيان الصهيوني. فكانت هذه بدايات انحدار النفس البشرية. وما زال هذه الكيان الذي تتعزز فيه النفس الحيوانية قائماً ومدعوماً من الكثيرين من أمثاله، ينمو ويتغذى ويتكاثر ويتحرك ويدرك الجزئيات، على حساب النفس البشرية في فلسطين أرضاً وشعباً. واليوم تضخمت هذه النفس الحيوانية بالدعم الذي تلقاه من النفس الحيوانية المنتشرة على الأرض والمهيمنة عليها بدعم من نمط الإنتاج الرأسمالي، حتى أصبحت ملطخة بدماء النفس البشرية من رأسها حتى أخمص قدميها. ومن المؤكد أن أول ما افترست هذه النفس الحيوانية الموجودة في الكيان ومؤيديه أينما وجدوا، افترست نفسها البشرية كي لا تمنعها عن افتراس النفس البشرية المتبقية في فلسطين ومؤيدي هذه القضية المحقة. وبهذا فإن انتصار القضية الفلسطينية هو تعبير عن انتصار النفس البشرية على النفس الحيوانية المدعومة من نمط الإنتاج الرأسمالي.

هنا تكمن الثغرة في فكر أرسطو المتمثلة في الصراع بين النفس البشرية والنفس الحيوانية داخل الإنسان. وما دامت هذه النفس الحيوانية هي المتحكمة في وسائل الإنتاج، وتجيد القراءة فهل لها أن تُعيد قراءة أرسطو لتدرك عواقب هيمنة النفس الحيوانية!

هذه النفس الحيوانية لن تدرك أبداً الكليات، وإن قرأت أرسطو، لأن إدراك الكليات صفة من صفات النفس البشرية، العاقلة، لذا لا بد لهذه النفس البشرية أن تتوحد أينما كانت في نضالها ضد هذه النفس الحيوانية، ومن خلال توحيد نضال النفس البشرية تصل هذه النفس إلى نضالها الأممي ضد النفس الحيوانية المتوحدة. لقد حان الوقت للنفس البشرية أن تدرك كلّيات قوّتها الأممية النضالية.

 

 

العدد 1140 - 22/01/2025