بيوت في العراء
وعد حسون نصر:
بيوت في العراء.. هو حال الكثرين ممّن سلبتهم بيوتَهم الأزمةُ والحرب وتبعاتها، فشردتهم في العراء متخبطين مع أنفسهم وانتشروا في مختلف أصقاع الأرض، سقفهم السماء وفراشهم الأرض وجدرانهم بضع شراشف من القماش لستر العورات. مدن بأكملها أضحت بيوتها تحاكي الأرض نتيجة حرب التهمت الأخضر واليابس وانتهت بأزمة أخلاق. وأناس خرجوا من تحت الدلف فوجدوا أنفسهم تحت المزراب تعصف بأحلامهم مياه قذارات هذه البلاد التي مزقتها المصالح والفساد! منهم من تمكّن من استئجار منزل صغير له ولعائلته، وفجأة اكتظَّ المنزل بعدد كبير من الأقارب بسبب فقدان منازلهم وسوء أوضاعهم الاقتصادية، فلربما الاشتراك بالسكن يُخفّف هذه الأعباء، لكن للأسف كثُرت المناوشات والخلافات بسبب اختلاف الأمزجة والطباع المختلفة، إضافة إلى انتهاج سلوكيات لا تشبه سلوكيات الآخرين. ومنهم من هاجر إلى بلاد الجوار بصفة لاجئ، فقطن الخيام وعايش ذلّها الذي أحاط به من كل الجهات، وكلما غضب سكان البلد الأصليين ثاروا على أهل الخيام وأحرقوا ملاذهم وأعادوهم لاجئين من جديد، لكن هذه المرة في العراء ينتظرون رحمة هيئة الأمم أن تؤويهم في خيمة جديدة علّها تكون أفضل بقليل من سابقاتها.
الأزمة السورية خلّفت أزمة سكن، فهناك مناطق خلت من بيوتها ومن سكانها بفعل الدمار، وبالمقابل هناك مناطق اكتظّت بالسكان والبيوت العشوائية مُتعدّدة الطوابق المخالفة لمواصفات العمران وللسلامة البشرية والبيئية، ويغمرها تلوث بصري بسبب العشوائية مُضافاً إليه تلوث سمعي بسبب الاكتظاظ والفوضى، وكذلك تلوث بيئي بسبب مُخلّفات هذا الكم الهائل من السكان في مكان واحد مخصص لعدد معين أساساً، لكن العدد ازداد وتفاقم أضعافاً مُضاعفة، ما أدى إلى نقص الخدمات أو انعدامها في أغلب المناطق.
إن تنوع البيئات ومعها الطباع قد أدى إلى مشاكل ونزاعات مختلفة ومُتعدّدة، وهذا طبيعي بحكم اختلاف المستويات واختلاف التربية والبيئة، خاصة مع ترافق الجهل لدى البعض وعدم تحضّر البعض الآخر، ما أدّى لنشوب خلافات بين هؤلاء السكان. يضاف إلى ذلك اعتبار البعض من أهل المنطقة أنه أحق بمنطقته وخدماتها من هؤلاء الوافدين، متجاهلاً أنهم يدفعون بدلاً نقدياً لقاء إقامتهم بمنازل قد لا تستحق هذه القيمة، بينما يتقاضون أجوراً بخسة لقاء عملهم بمحال تجارية قد لا تناسب الجهد المبذول.. لكن ما باليد حيلة فهم بحاجة إقامة ومأوى، وبحاجة إلى مزاولة عمل، أو محل يضعون به بضاعتهم ويمارسون تجارتهم البسيطة. وهنا، من الطبيعي أن نلاحظ أن المدن الآمنة أو بعض المحافظات السورية الآمنة تعاني من أزمة سكن حادة، وارتفاع مفرط في بدل الإيجارات، ممّا يزيد من معاناة الشعب السوري الذي يعاني أصلاً من ظروف اقتصادية صعبة، وتردي الخدمات والبنية التحتية. ولعلَّ أبرز هذه المشكلات زيادة عدد السكان في المناطق الآمنة بسبب نزوح أعداد كبيرة إليها من المحافظات غير الآمنة بعد تعرضها لدمار واسع. كذلك الهجرة من الريف إلى المدينة للبحث عن العمل أو الدراسة، وهذا ما عزّز أزمة السكن الموجودة أصلاً وارتفاع بدلات الإيجار وغلاء أسعار العقارات حتى في المناطق العشوائية التي تفتقر إلى الخدمات الأساسية.
لقد خلّفت الأزمة والحرب الكثير من المحن المترافقة بوجود أزمة أخلاق لا ترحم، فصار فقدان السكن أرحم بكثير من فقدان الأخلاق، فالسكن قد يعوّض بملاذ ولو في العراء، لكن أزمة الأخلاق لا يمكن أن تعوض حتى بعد إعادة الإعمار، لأنها أساساً أزمة أخلاق انهارت بسببها البلاد .