هل يمكن للعملاق الأوربي أن يولّد ويحقّق التوازن الدولي؟

يونس صالح:

كان العالم ينتظر مولد العملاق الأوربي خلال التسعينيات من القرن الماضي، حتى يحدث التوازن ولا يبقى عملاق واحد على القمة.. ولكن يبدو أن مولد هذا العملاق سوف يتأخر.. فما هي أسباب ذلك؟ ومن أين يولد العملاق الجديد، كما يقول بعض الخبراء الاجتماعيين؟

إن خلوّ مقعد العملاق الثاني بعد انهيار الاتحاد السوفييتي قد فتح الباب أمام عدد محدود من الدول لإمكانية شغل المكان، إذ إن بقاء عملاق واحد على القمة أمر بالغ الخطورة على الاستقرار العالمي، فانفراده بالقمة يجعل من إرادته هي القانون، ويصبح القانون الدولي مجرد كلمات وذكريات، وقد شهد العالم عبر تاريخه مثل هذا الوضع، وأبرز أمثلته ما عُرف بالسلام الروماني، والسلام البريطاني، وهو تعبير سياسي عن هيمنة دولة واحدة على القمة، والخضوعُ لإرادتها هو السلام.

إن إيمان العالم بهذه الحقيقة كان من أكبر عوامل البحث عن البديل للعملاق المفقود، بل ومحاولة دفع البعض ليتقدم لشغل المقعد الخالي.. وكانت الدول المرشحة لذلك المقعد هي ألمانيا واليابان والصين، ولم يكن الترشيح مجرد ميل لهذه الدولة أو تلك، أو لمجرد البحث عن بديل، بل كانت نتيجة ما حقّقته كلٌّ من هذه الدول من إنتاج ونمو حتى أصبح لها وزنٌ يصعب اتخاذ موقف أو سياسة في العالم، دون الرجوع إليها بشكل أو بآخر.

لقد أصبحت أوربا الموحدة هي المفضّلة، سواء كانت ألمانيا على رأسها أو من دولها هي المرشح الأول لشغل المكان، وكان وراء ذلك التفضيل عدد من العوامل أهمها:

* الدور العالمي الذي تقوم به أوربا، والذي كان امتداداً لدورها الاستعماري القديم، وقد ساعدها على ذلك وجود دولتين هما فرنسا وبريطانيا في مجلس الأمن من أصحاب الفيتو الخمسة.

* التاريخ الحضاري والثقافي لأوربا كان يثير بريقاً في كثير من دول العالم، وكثير من أبناء الدول الأخرى تعلم في أوربا أو تعلم لغة من لغاتها.

* الوحدة الأوربية التي كانت تبدو أملاً مستحيلاً، فإذا بها تتحقق.

* إن أوربا بكل المعايير في ظل الوحدة تعتبر هي أكبر العمالقة، وتتفوق من حيث عدد السكان والإنتاج والدخل القومي على الولايات المتحدة الأمريكية نفسها.

وهكذا تجمعت كل العوامل لتجعل من أوربا المرشح الأول لشغل منصب العملاق الآخر الشاغر، بينما كان غيرها مشغولاً بمشاكله أو على الأقل لا يريد أن يبدو وكأنه له طموحاً في دور دولي (الصين على سبيل المثال)، وأصبح هناك انطباع وخاصة في الإعلام العالمي بأن موضوع شغل أوربا لذلك المقعد العملاق هو مسألة وقت فقط، وأن هذا العملاق قادم بسرعة قبل أي عملاق آخر.. وفجأة بدأت تبرز على السطح مجموعة من المشكلات، كشفت الأيام عن مقدار عمقها، بحيث لم تهدد فقط دور العملاق الأوربي القادم، بل إنها باليقين قد أجّلت مولده على الأقل، وكانت البداية في بروز الحروب العرقية، التي كان البعض يتصور أنها توءم دول إفريقيا وآسيا، وأنها بعيدة عن أوربا حيث الحضارة والثقافة! التي انبهر بها الكثيرون، فإذا بالغطاء يرفع عن عقل بالغ التحجر وثقافة تخلفت عن الركب. لقد رفعت هذه الحرب أستار الحرج عن القوى الكامنة في المجتمعات الأوربية، وبدأت بعد ذلك الحرب العنصرية ضد الأجانب، وأصبحت هناك دول عديدة في أوربا تواجه مخاطر التقسيم لأسباب عنصرية، وأضيف إلى ذلك تصاعد الأزمة الاقتصادية، إذ فقدت التجربة الألمانية بريقها، بعد أن بدأ اقتصادها يعاني من الانكماش، وقد ظهر أن البطالة في دول السوق الأوربية – الموحدة قد وصلت إلى نحو 20 مليون عاطل، أي نحو 11% من القوى حالياً، بينما نجد ذلك المعدل في الولايات المتحدة في حدود 8%.

حتى ما كان ميزةً لأوربا، وهو ضخامة صادراتها، أخذ في الانكماش حتى إنها فقدت نحو 25% من حجم صادراتها خلال عشر سنوات، والمهم أنه في الوقت الذي نجد الكثير من الدول غير الأوربية يسير بخطا سريعة نحو التكنولوجيا المتقدمة (الصين، اليابان، كوريا الجنوبية، الهند) نجد أن أوربا تفقد مكانها في هذا المجال.

وكان يمكن اعتبار تلك المشكلات مجرد أمراض تحتاج إلى علاج، لولا أن الدراسات العلمية الأوربية تقول إن إنتاجية العامل الأوربي قد أصبحت أقل من معدلاتها في الولايات المتحدة واليابان، ويضاف إلى ذلك ارتفاع معدلات التضخم التي وصلت في بعض بلدان أوربا إلى 30% (خصوصاً بعد أحداث أوكرانيا)، وذلك كله يعني باختصار أن الوضع الاقتصادي في أوربا في حالة انكماش تعبيراً عن أزمة اقتصادية حقيقية، وكلما ازدادت الأزمة هذه تركت آثارها على الوضع الاجتماعي.

والظاهرة الأخرى التي لابد من التوقف عندها هي أنه رغم طول فترة التحالف بين دول أوربا، وتعدد المؤسسات والمنظمات التي تجمعها في كل مجالات النشاط، فإنه قد بقي دائماً حالة من عدم اتفاق هذه الدول على سياسات واحدة تجاه العديد من المشكلات، وهناك أمثلة كثيرة على ذلك، والواضح أن أحد أسباب هذا الانقسام وعدم الاتفاق الذي يشل الإرادة الأوربية هو طول اعتماد أوربا على الدور الأمريكي والقرار الأمريكي. لقد دخلت واشنطن لإنقاذ أوربا بعد الحرب العالمية الثانية من خلال مشروع مارشال لإعادة البناء، وقد منح ذلك الوضع واشنطن مجموعة من الامتيازات سواء كانت مكتوبة أو وليدة الشعور بالحاجة الأوربية إلى الدعم الأمريكي، وصحيح أن واشنطن لم تكن تأخذ القرارات منفردة من حيث الشكل، بل كانت تحرص قبل إعلان أي قرار على أن تتشاور مع الحلفاء في أوربا ثم تعلن القرار.. وهي في الواقع لم تكن في انتظار الموافقة، بل يكون القرار عادة قد أخذ طريقه إلى التنفيذ.

نتيجة كل ذلك، كان طبيعياً أن تنتقل إمكانية نشوء العملاق الثاني الذي يعيد التوازن عالمياً، وينتهي تفرد العملاق الأمريكي إلى شرقي آسيا لأنها نقطة التطور والنمو في العالم، حيث يتحقق هناك أعلى معدلات النمو على صعيد العالم كله.

ومع اجتماع كل هذه العوامل الضاغطة على أوربا، أصبح يقيناً استحالة ولادة العملاق الأوربي على الأقل في المدى المنظور والأقرب أن يكون العملاق آسيوياً.

العدد 1140 - 22/01/2025