مصير الأسرة السورية في مواجهة منعطفات خطيرة

إيمان أحمد ونوس:

بما أن الأسرة هي الخلية الأساسية في كل المجتمعات الإنسانية، فقد استأثرت باهتمام علماء الاجتماع والسياسة، إضافة إلى اهتمام الحكومات والدول على مرّ التاريخ. وانطلاقاً من هذه الأهمية، ما فتئت قضايا هذه الأسرة موضع اهتمام متزايد في الأمم المتحدة. ففي عام 1983، وبناء على توصية مقدمة من لجنة التنمية الاجتماعية، طلب المجلس الاقتصادي والاجتماعي بموجب قراره (1983/33) بشأن الدور الذي تضطلع به الأسرة في عملية التنمية إلى الأمين العام أن: يُعزّز الوعي بين صانعي القرار والجمهور بشأن مشاكل الأسرة واحتياجاتها، فضلاً عن الوسائل الفعّالة لتلبية تلك الاحتياجات.

وعليه، فقد تقرّر الاحتفال باليوم الدولي للأسر في الخامس عشر من أيار (مايو) من كل عام، حسبما أعلنت الأمم المتحدة عام 1993. يُراد لهذا اليوم أن يعكس الأهمية التي يوليها المجتمع الدولي للأسرة بما يُتيح الفرصة لتعزيز الوعي بالمسائل المتعلقة بها وزيادة المعرفة بالعمليات الاجتماعية والاقتصادية والديموغرافية المؤثّرة فيها.

وفي سورية، فقد صدر القانون رقم 42 لعام 2003 القاضي بإحداث الهيئة السورية لشؤون الأسرة، وهي تهدف حسب المادة 2 من هذا القانون إلى تسريع عملية النهوض بواقع الأسرة السورية، ‏وتمكينها بشكل أفضل من الإسهام في جهود التنمية البشرية. إضافة إلى أن الفقرة هـ من المادة ذاتها تنصُّ على اقتراح تعديل التشريعات المُتعلّقة بشؤون الأسرة.

‏وقد كان لصدور هذا القانون وقعه الإيجابي على المعنيين بشؤون الأسرة، وكذلك على الناشطين/ ـات في قضايا المرأة والطفل والمجتمع، وكان الأمل كبيراً بإحداث تغييرات حقيقية في مجال قانون الأحوال الشخصية والقوانين الأخرى المتعلّقة بالمرأة والطفل، تغييرات تتواءم مع الدستور ومع الاتفاقيات والمعاهدات الدولية ذات الصلة بالمرأة والطفل والتي صادقت عليها سورية. إلّا أن ما جرى لاحقاً من أزمة سياسية أدّت إلى حرب التهمت نيرانها كل شيء وبضمنها مقوّمات ومكوّنات الأسرة السورية التي ذهب غالبية أفرادها كلٌّ في اتجاه أو مصير، حتى وصلنا إلى يوم فقدت فيه غالبية الأُسر بوصلتها أو قيمها المعهودة وفق منظومة اجتماعية خلخلها واقع مرير.

فإذا ما أمعنّا النظر بواقع الأسرة السورية اليوم، بعد حرب سنوات الجمر التي أحدثت تغييرات جذرية في العديد من المفاهيم الاجتماعية والقيمية، نجد أن الأسرة السورية قد تعرّضت لهزّات وانتكاسات خطيرة وعلى مختلف الصُعُد بسبب التهجير والنزوح وغياب كلا الأبوين أو أحدهما، وغالباً ما يكون الأب بسبب التجنيد أو الاعتقال أو الخطف أو الموت والهجرة القسرية أو الاختيارية، وبالتالي فإن غالبية الأُسر قد فقدت أحد أركانها ممّا ترك الطرف الآخر وحيداً مع كل الأعباء المادية والمعنوية التي تحتاجها الأسرة وتربية الأبناء في ظروف مادية واقتصادية وحتى اجتماعية قاسية لا ترحم، في ظلّ تخلخل القيم الاجتماعية والأخلاقية التي فرضتها ظروف الحرب وويلاتها، وقد تجاوزت العديد من هذه الأُسر مختلف العقبات والعراقيل التي اعترضتها أو تعترضها باستمرار بسبب الوضع الاقتصادي المُتردي في البلاد، وذلك بحكمة وصبر الطرف الموجود من الأبوين وإحساسه العالي بالمسؤولية تجاه أبناء لا ذنب لهم إلاّ أنهم جاؤوا إلى دنيا مليئة بالحروب والمآسي كما يقولون. وكذلك فإن الأبناء قد نشؤوا على المحبة والأخلاق الإيجابية التي تمّ تعزّيزها من قبل الطرف الموجود (وغالباً ما تكون الأم)، فكانت هذه الأسرة نموذجاً للاستقرار والنجاح إلى حدٍّ ما. لكن، لا يُمكننا إغفال أن العديد من الأبناء قد خسروا الأبوين معاً بسبب الموت أو لأسباب ذكرناها أعلاه، واختار الطرف المتبقي الرحيل أيضاً ليبدأ حياة جديدة تاركاً الأبناء في رعاية الأجداد أو الأقارب ممّا قد يعرّضهم لافتقاد الحنان والاهتمام الكافيين، فينشأ الأطفال ولديهم بعض العدوانية والقسوة تجاه الآخرين بسبب تخلي الأبوين أو أحدهما عنهم، وخاصة حين تكون الأم هي من تخلّى عنهم بسبب زواج آخر، أو رفض أهلها قبول الأولاد معها. وهنا لا يمكننا أن نُطلق حكماً إيجابياً على أولئك الأبناء الذين ولا شكّ سيعيشون حالة مرعبة من التشتت والتمزّق العاطفي والأخلاقي والنفسي الذي خلّفه غياب الأبوين معاً.

إن هذا الواقع يفرض علينا جميعاً أفراداً وهيئات ومؤسسات مدنية أو تربوية التعامل معه بمنظور مُختلف عمّا كان عليه سابقاً، كما يفرض أولاً على وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل ممثّلة بالهيئة السورية لشؤون الأسرة النظر إلى هذا الواقع والتعامل معه من منطلق مهامها الأساسية في صون الأسرة السورية والارتقاء بها في حالة السلم، فكيف والحال كما وصفنا في ظلّ الحرب بكل ما خلّفته من آثار سلبية خطيرة على غالبية الأُسر، وقبل كل هذا يفرض على الإعلام بكل وسائله أن يُلقي الضوء على الواقع الأُسري الذي يتطلّب اليوم توصيفاً وتقييماً جديداً مُغايراً لما كان سائداً عن الأسرة المتكاملة أو الناجحة والسعيدة، وأن يستعرض النماذج الإيجابية لأُسر فقدت أحد أركانها لتكون نموذجاً يُحتذى في المجتمع، لاسيما للنماذج السلبية من الأُسَر التي تُرك فيها الأولاد في مهب رياح الحياة يواجهونها وحيدين وعُزّلاً إلاّ من قلقهم وخوفهم من كل ما يحيط بهم بسبب فقدانهم الأمان العاطفي والاجتماعي ما يتركهم عرضة إمّا للعنف أو التعنيف والتنمّر الذي بات اليوم سمة أساسية لدى غالبية أولئك الأبناء.

العدد 1140 - 22/01/2025