المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية ومشاركة النساء

عرف مفهوم العدالة الانتقالية أول مرة بعد الحرب العالمية الثانية في محاكمات نورمبرج التي أجريت للنازيين الألمان. ويشير مفهوم العدالة الانتقالية بشكل عام إلى مجموعة من الأساليب التي يُمكن للدول استخدامها لمعالجة انتهاكات حقوق الإنسان السابقة، وتشتمل على توجهات قضائية وغير قضائية على حد سواء.تشتمل العدالة الانتقالية على سلسلة من الإجراءات أو السياسات مع المؤسسات الناتجة عنها، والتي يمكن أن تسن في مرحلة تحول سياسي بين فترة عنف وقمع إلى فترة استقرار سياسي.تستمد العدالة الانتقالية مضمونها من رغبة المجتمع في إعادة بناء ثقة اجتماعية، مع إصلاح نظام قانوني مهترئ، وبناء نظام حكم ديمقراطي.القيمة الجوهرية للعدالة الانتقالية هي مفهوم العدالة؛ ليس فقط العدالة الجنائية، بل جميع أشكال العدالة.هذا المفهوم، مع التحول السياسي المتمثل في تغيير النظام السياسي أو التحول من مرحلة التعارض، يرتبط بهما مستقبل أكثر سلاماً، وديمقراطية وثقة.

والعدالة الانتقالية تختلف عن العدالة التقليدية في أنها تُعنى بالفترات الانتقالية مثل: الانتقال من حالة نزاع داخلي مسلح إلى حالة السلم، أو الانتقال من حكم سياسي تسلطي إلى حالة الحكم الديمقراطي، أو التحرر من احتلال أجنبي باستعادة أو تأسيس حكم محلي. وكل هذه المراحل تواكبها في العادة بعض الإجراءات الإصلاحية الضرورية، وسعي لجبر الأضرار لضحايا الانتهاكات الخطيرة.

أي أن مفهوم العدالة الانتقالية يعني الاستجابة للانتهاكات المنهجية أو الواسعة النطاق لحقوق الإنسان، بهدف تحقيق الاعتراف الواجب بما كابده الضحايا من انتهاكات، وتعزيز إمكانات تحقيق السلام والمصالحة والديمقراطية.أي أنها تكييف للعدالة على النحو الذي يلائم مجتمعات تخوض مرحلة من التحولات في أعقاب حقبة من تفشي انتهاكات حقوق الإنسان؛ سواء حدثت هذه التحولات فجأة أم على مدى عقود طويلة.بعبارة أخرى، يربط مفهوم العدالة الانتقالية بين مفهومين هما العدالة والانتقال، بحيث يعني: تحقيق العدالة أثناء المرحلة الانتقالية التي تمر بها دولة من الدول.

وعلى الرغم من أن المفهوم ظهر في أعقاب الحرب العالمية الثانية، إلا أن حضوره تكثف بشكل خاص منذ سبعينيات القرن العشرين، فمنذ ذلك الحين شهد العالم أكثر من 30 تجربة للعدالة الانتقالية، أهمها تجربة تشيلي والأرجنتين وبيرو والسلفادور ورواندا وسيراليون وجنوب إفريقيا وتيمور الشرقية وصربيا واليونان. وفي الدائرة العربية، تبرز تجربة المغرب في مجال العدالة الانتقالية من خلال هيئة الإنصاف والمصالحة كمثال يستحق التقدير، لاسيما أن هذه التجربة ارتبطت أساساً بتوفر إرادة سياسية شكلت أرضية للإصلاحات التي انخرط فيها المغرب منذ تسعينيات القرن الماضي. ويرى البعض أن القيمة الأساسية التي تميز التجربة المغربية في مجال العدالة الانتقالية تتمثل في (عنصر المشروعية). وهو ما أثبت إمكان تحقيق العدالة الانتقالية من داخل السلطة، خصوصاً بإشراك المعارضة التي كان في مقدمتها عبد الرحمن اليوسفي الذي عُيِّن رئيساً للوزراء، وفتح ملفات الانتهاكات، وفيما بعد تشكيل هيئة الإنصاف والمصالحة وتعويض الضحايا والعمل على إصلاح وتأهيل عدد غير قليل من المؤسسات.

كما طرح موضوعَ العدالة الانتقالية بصفة مباشرة، هيئاتٌ رسمية في إطار ديناميات المصالحة الوطنية في كل من الجزائر والسودان والعراق.كما بدأ الموضوع يفرض نفسه في سياقات ذات صلة بتعزيز الديمقراطية وتثبيت الوحدة الوطنية في كل من البحرين وموريتانيا. وطرح الموضوع كإرهاصات، وكدعوات للتفكير، في سياقات التصدي لإشكالات التحول الديمقراطي والتفكير   الاستراتيجي المرتبط بها، في كل من لبنان واليمن.بل وبدأ الموضوع يظهر كإشكال للتفكير أو (كإغراء الأكاديمي) في أطروحات بعض النخب السياسية والحقوقية في كل من مصر، وسورية، والأردن..

اختلفت تجربة العدالة الانتقالية في العالم العربي بين بلد وآخر. ورغم أن المتداول أن إجراءات العدالة الانتقالية تبدأ بعد سقوط الأنظمة، كما في العراق، حيث كانت تجربة العدالة الانتقالية فيه مشوبة بالكثير من الملابسات، كما في الجزائر، وكما يجري اليوم في تونس.

لكن ماذا عن  بلادنا؟ يتساءل السوريون اليوم، وبعد عامين من الحراك من أجل التغيير السلمي والعدالة والديمقراطية تخللهما أحداث دامية وأعمال انتقامية مرعبة واشتباكات مسلحة أودت بخسائر كبيرة بالأرواح والأملاك، كما تسببت بتهجير أعداد كبيرة من المواطنين، إضافة إلى تخريب البنى التحتية للبلاد، عن ماهية العدالة الانتقالية وهي مفهوم جديد على مجتمعاتنا، كيف تعاملت معها الدولة؟  قامت تجربة وليدة فرضتها التطورات الكبيرة على الساحة السياسية السورية، لخصها القائمون على الحكم  في إشراك بعض ممثلي أحزاب المعارضة الداخلية  بتشكيل الحكومة.   وربما كان أهم هذه الخطوات إحداث وزارة جديدة وضع على رأسها أحد رؤساء أحزاب المعارضة الداخلية، وهو الدكتور علي حيدر وسميت بوزارة الدولة لشؤون المصالحة الوطنية. وقد صرّح حيدر (أن المصالحة الوطنية هي مشروع الدولة السورية، وعلى الجميع المشاركة فيه، موضحاً أن الوزارة تدعم كل المبادرات الأهلية والشعبية الموجودة على الأرض والتي تؤدي إلى الالتقاء مع العمل المنظم الذي نقوم به كوزارة مصالحة وطنية كي يكون العمل مؤطراً  ومنظماً ومضبوطاً بأداء عمل يتكامل بعضه مع بعض). و(إن ملف المخطوفين والموقوفين والمعتقلين والمغيبين هو من الملفات الأساسية التي تعمل وزارة المصالحة على متابعته والسعي لمعالجته).

 لكن مع حجم المأساة السورية  والفوضى الدموية وتعدد الجهات المسؤولة عن أعمال العنف بكل أشكاله في البلاد، يمكننا أن نتساءل عما إذا كانت صلاحيات الوزارة كافية، أو ماهي صلاحياتها حقاً، وما مدى تعاون باقي مؤسسات الدولة معها، خاصة الأجهزة الأمنية؟ ومن جهة أخرى ما مدى تجاوب المجتمع الأهلي الحاضن للحراك المعارض معها؟ وهل سيمنحها الثقة الضرورية لإنجاز المهام الصعبة الملقاة على عاتقها في أحد أشد مراحل البلاد حساسية وصعوبة؟ ويمكننا أن نتساءل أيضاً عن إمكان وجود لجنة قضائية مستقلة ونزيهة للنظر في قضاياهم بأقصى سرعة ممكنة، وهل يمكن النظر في حالات التجاوزات التي حدثت، ومحاسبة المسؤولين عنها، بالنظر إليهم كمواطنين متساوين أمام القانون دون استثناءات تحت سقف الدولة السورية؟ وهل ستشكل الدولة لجاناً لتقصي الحقائق وراء المجازر التي حدثت، أو ستسمح للجان تقصي حقائق دولية بالتحقيق في التجاوزات الكبيرة التي حدثت لحقوق الإنسان في البلاد؟ وهل ستشكل لجاناً لبحث ملفات مربكة، كملف النازحين والمهجرين من مناطق الاشتباكات المسلحة؟

 هذا في الداخل السوري، لكن ماذا يحدث في الخارج؟ بهذا الشأن  أنشئت في الخارج (اللجنة الوطنية التحضيرية للعدالة الانتقالية) بعد مؤتمر نظمه المركز السوري للدراسات الاستراتيجية والسياسية تحت عنوان (ضمانات العدالة للضحايا والمحاسبة لمرتكبي الجرائم: مسار العدالة الانتقالية في سورية.) من أجل تطوير خطط لتحقيق المحاسبة وجبر الضرر والإصلاح والمصالحة في سورية. وتشكل النساء 40 بالمئة من مجموع أعضاء اللجنة الذين يتمتعون بخبرات مهنية مختلفة، ويأتون من خلفيات اجتماعية متنوعة. وأهم التوصيات في هذا المؤتمر كان (إدماج المجتمع المدني في مسار العدالة الانتقالية إذا أريد لهذه المسارات أن تصل إلى ذروة فعاليتها).

العدد 1140 - 22/01/2025