وداعاً.. سميح القاسم
في غمرة الحزن الحزيراني، والوجع المقيم، ثارت شرارات ملونة تعالج جرحنا الدامي العميق.
وتحاول إذكاء الأمل في نفوس نابها اليأس والقنوط، بعد توالي الهزائم التي ألمت بأمة نامت نومة أطول من نومة أهل الكهف.
ما كانت تلك الومضات الملونة، إلا مجموعة من شعراء الأرض المحتلة، نظرت إلى الواقع في صيرورته، لا في ثباته وسكونه. فآمنت بالشعوب وعلقت الأمل عليها وعلى حركة التاريخ. وانطلقت تعبر عن آمال الشعوب، وتحرض على وأد كل ما هو عفن رث، لصالح ما هو تقدمي، وفاعل.
هم مجموعة ممن سكنهم هاجس الشعر، هم محمود درويش، وسالم جبران، ومحمد علي طه، وسميح القاسم، ولم يتفرقوا إلا على يد مفرق الجماعات. جمعتهم الكلمة المقاومة التي آمنوا بها، وبقدرتها على صنع تأثير من نوع ما، ثم تغيير في النفوس سيؤدي إلى فعل يدفع اليأس والموات، ويشيع الأمل والحياة.
وأراني لا أجد حاجة ملحة للحديث عن حياة الشاعر سميح القاسم، فكثيرة هي المراجع التي يمكن العودة إليها لترميم ما هو غير معروف من حياة هذا الشاعر في أذهان القراء، من محبيه أو من المعجبين بما تشكله تجربته الشعرية المقاومة، ولكني سأعرّج على مجموعة من الخصائص التي تمثل شعره من الناحية الفكرية المعنوية، والفنية الجمالية.
مما لا شك فيه أن شاعرنا كان يدرك حال الشعر العربي ونهضته التي ابتدأت في النصف الثاني من القرن العشرين، وتحول الشعر على يد نخبة من المثقفين والمحترفين الذين آمنوا بضرورة خروجه من مأزقه البلاغي والبديعي نحو لغة جديدة، تستجيب للحياة والحيوية، وقد حاول سميح القاسم أن يراوغ بعض معطيات هذا الشعر باتجاه معطيات تؤمن بجماهيرية الشعر.
فانطلاقه من أن وظيفة الشعر هي (التثوير) و(التنوير) جعلته يؤمن بارتباط الشعر بالجماهير، ليصير الشعر لديه أغنية ترددها الجماهير فتفعل وتؤثر.. يقول في مقابلة معه: (.. الشاعر دوره يتحقق إذا كان شعره صادراً عن شاعر ملتزم، وإذا ما كانت رسالة الشاعر تلك الأيام، كنت أرى الأطفال الفلسطينيين وهم يتحدون الجنود الإسرائيليين ويهتفون (كاديما.. كاديما) أي تقدموا.. تقدموا، ويتبعهم الجنود، فيخرجون الحجارة من حقائبهم ويقذفون بها الجنود. ومن هنا ولدت قصيدتا: (تقدموا) و(حب على الطريقة الفلسطينية)..
إذا: الشعر ليس ترفاً فكرياً، بل هو للناس وللجماهير، بما تحمل هذه الكلمة من مخزون دلالي ملتزم بالوطن والشعب والثورة.
ومن خصائص شعر سميح القاسم قدرته على توظيف المعطى التراثي، العربي والعالمي في شعره، ممثلاً بالتاريخ، والأديان والأساطير والحكايات والأهازيج والمواويل، ليصل إلى الناس.
حرّاء! هل جرتْ حمامتك الوديعة؟
هل جفتك العنبكوت؟
حرّاء! هل دهمتْ قريش أمان لائذك الكريم؟
فراح تحت سنابك الكفار
مغدوراً يموت؟!
عادت (منى) وأبو لهب
عادا.. فما تبتْ وتب!
والكعبة استخذت منابرها للخوارج
لا الله يكبح من جماح ضلالهم، لا الأنبياء
ولا الكتب!
و(الله أكبر) لكنة جوفاء
تطلقها نفايات المسوخ التافهين!
فاركبْ بعيرك يا محمد
وتعال.. لي في الشمس معبد).
فالشعر يحمل مجموعة من الرموز التي تشترك في معرفتها المجموعة العربية من المتلقين، لأنها مبذولة لدى الجميع، وهذا ما يجعل شعره قادراً على التواصل مع الجميع إيماناً منه بجماهيرية الشعر، وبأن الشاعر نتاج ثقافة أمته أو مجموعته البشرية، والناطق باسم معطيات حضارته وثقافته.
كما تفيد قصيدته من الواقع المعاش، ومن معطيات الحياة اليومية لإنسان وطنه، بل من نثريات الحياة كما هي وليس كما يتخيلها.
(ربما أفقد ـ ما شئت ـ معاشي
ربما أعرض للبيع ثيابي وفراشي
ربما أعمل حجّاراً.. وعتالاً.. وكنّاس شوارع..
ربما أبحث، في روث المواشي، عن حبوب
ربما أخمدُ.. عرياناً.. وجائع
يا عدو الشمس. لكن.. لن أساوم..
وإلى آخر نبض في عروقي.. سأقاوم!…
ولكن سميح القاسم، كان يتطور دائماً من مجموعة إلى أخرى فتصبح رموزه أكثر فنية، وأحسن توظيفاً، وما لجوءه المتكرر إلى الرموز استجابة للضرورات الفنية دائماً، وإنما تقية من عدو بغيض يلاحق الكلمة وأصحابها، لأنه يعرف مدى تأثيرها وأهميتها وفعلها في النفوس.
ربما يلاحظ دارس شعر سميح القاسم، بعض النمطية والرتابة، وما ذلك إلا بسبب الموضوع الذي يتشبث بكيان سميح القاسم وهو، الوطن، وفلسطين، والأمة، مما يوحي بأن مجموع شعره يشكل تنويعات متقاربة على هذه المضامين، لأنه يعيش فلسطين وشعبه، وأمته بكل كيانه ووجوده، فلا يستطيع فكاكاً ـ دائماً ـ من أسر هذه المضمونات التي شكلت نبض القلب وجزيئات الروح. ولكن ذلك له استثناءات نجدها في ثنايا شعره، هنا، وهناك.
ولكن ذلك لا يعني النمطية الفنية، فغالباً ما يتناول الموضوع بصيغ متنوعة، وأساليب شعرية متنوعة. تظهر في لجوئه إلى أساليب فنية تغني شعره، وتغني سويته الفنية، من مثل الرمز، والأسطورة فنلحظ حضور أسطورة إيزيس وأوزوريس، وأسطورة أنتيجونا.. وحضور الرموز من كل الأنواع الدينية، كالأنبياء موسى، عبيسى، ومحمد (ص) وقابيل، وهابيل، وبطرس وأبو لهب، والرموز التاريخية، المعتصم (أيبقى الله في منفاه/ ونصرخ من قرار الليل/ معتصماه.. معتصماه../ (5). والبحر من ورائكم والعدو من أمامكم (الديوان ص 130) ويا أحفاد طارق (ص 213). عقبة ـ وطارق ـ وبغداد الرشيد وطليطلة (ص 216) وغيرها كثير.
ومما يلفت النظر في شعر سميح القاسم، احتفاؤه بالموسيقا والإيقاع، وربما يعود ذلك إلى فوران العاطفة في الموضوعات التي يطرقها، وإلى إيمانه بضرورة حضور الموسيقا في الشعر، مما جعله شديد الاحتفاء بالتفعيلة من جهة، وبالتقفية من جهة أخرى، مع اهتمام غير قليل بالتكرار الذي يولد إيقاعاً وموسيقا، تجعل القصيدة كالنشيد.. صالحة للغناء والإنشاد.
يا عدوَّ الشمس
في الميناء زينات، وتلويح بشائر
وزغاريد، وبهجة
وهتافاتٍ، وضجة
والأناشيد الحماسية وهج في الحناجر
وعلى الأفق شراع..
يتحدى الريح.. واللجّ.. ويجتاز المخاطر..
إنها عودة يوليسيز
من بحر الضياع
عودة الشمس، وإنساني المهاجر
ولعينيها، وعينيه.. يميناً.. لن أساوم
وإلى آخر نبضٍ في عروقي
سأقاوم.. سأقاوم.. سأقاوم..!).
وقد اخترت هذا المقطع لأسباب عديدة، منها استخدام الأسطورة. ومنها الإيقاع الواضح، الذي تفرزه التقفية المتكررة، ومنها التكرار الذي يعطي القصيدة كلها نوعاً من الموسيقا الظاهرة التي تجعلها تصلح للإنشاد والغناء..
فالأسطر الأخيرة من المقطع لازمة القصيدة التي يكررها في نهاية كل مقطع منها، مما يعطي شعره مسوّغاً للإنشاد وارتفاع الصوت..
بقي أن أشير إلى أمر مهم في تكوين سميح القاسم، انعكس في شعره وهو أنه عروبي بامتياز يؤمن بوحدة الشعب العربي كله، ولا يؤمن بسايكس بيكو.. لا يؤمن بالقطرية، وإن كانت مفروضة، ويؤمن بالكفاح الإنساني من أجل التحرر والعدالة، ويدعو إلى المقاومة طريقاً للسلام.
يقول: / ولسنا نطفئ الغلة/ بغير الوحدة الكبرى/ وكوثر عدنها الخالد/.
ومن آرائه في الشعر: (إذا كانت القصيدة قادرة على زلزلة الجمهور وعلى نقله من حالة نفسية وروحية ووجدانية وفكرية إلى حالة أخرى فستكون قصيدة جديرة بالاحترام، ويتحول الشعر إلى حالة دائمة من التثوير والتنوير والتغيير..).
القصيدة البلاستيكية: هي القصيدة التي تقوم على تقليد الآخر دون أن تملك نار الشعر المقدسة، هي تشبه الشعر لكنها ليست بشعر..).
(الحالة المشتركة بين كل القصائد، هي الدخول فيما يشبه الغيبوبة والانقطاع عن المحيط والبيئة طيلة تشكّل الألفاظ والصور والإيقاعات).
(لا أظن أنني سجلت في أية قصيدة صورة الواقع الفوتوغرافية، فقصيدتي ترسم الواقع في حركته نحو نقيضه..).
(حداثتنا الشعرية حداثة لغتنا وإحساسنا، لا ما يطلق عليه حداثة لا تجلب إلا الخواء واللامعنى واللاقيمة، ليصبح الشيء وضده واحداً في الوقت ذاته، تلك هي الفوضى التي تقود للضياع..).
وداعاً سميح القاسم وقد شكلت مع ثلة من شعراء المقاومة وجدان جيل بل أكثر، رأى في المقاومة عنوان وجوده، واستمراره ونافذة خروجه من بؤرة الضياع والخذلان نحو أفق واعد.. بحياة تضمخها الكرامة والعزة بعد خذلان استمر قرونا في أمة لم تعتد مثله خذلاناً.
وداعاً وأنت مثال الشاعر الملتزم بالكلمة المقاومة الحرة.