من معلولا.. هنا الوطن!

تحتفل بلدة معلولا بليلة عيد الصليب المقدس الواقعة في الثالث عشر من أيلول من كل عام، فيؤم القرية الصغيرة الهادئة عدد غفير من الزوار  العرب والأجانب.

 هو عيدٌ مميزٌ جداً يتمثل بإشعال النار في قمة جبال البلدة، إضافة للازدحام الشديد وأصوات الأغاني والأهازيج والمفرقعات النارية، مصحوبة بحفلات وسهرات لا تنطفئ قبل انطفاء النار في قمة الجبل! أما هذا العام فكان الاحتفال مختلفاً لاختلاف ظرفنا وأيامنا، فاقتصر على مسيرة شموع وصلوات رحمة لشهداء معلولا وكل سورية.. مسيرة ضمت عدداً كبيراً من  الأهالي وبعض الزوار ومجموعة من الصحفيين لتغطية الحدث. وأما عن شعوري وأنا من  كنت هناك فهو شعورٌ عميقٌ من الألم والحزن  لمأساتها ومأساة سورية الأم والفرح الغامر لعبور البلدة نحو حياة جديدة. والأمل بعبور المصيبة عن سورية وعودة السلام لكل أراضيها. لاحظوا استخدامي لكلمة (عبور) لوصف الاحتفال وكنت قد التقيت مع أحد المختصين  النفسيين  لمناقشة حالة العبور محاولة مني  لمزيد من فهمها  كحالة عشتها مع معلولا وممكن أن يعيشها أهالي كل المدن والبلدات السورية تباعاً.

بدايةً، كل منطقة من مناطق الوطن لها ثقافة خاصة فيها مع الاختلافات الجغرافية والفردية والقومية تكونت وانتقلت عبر الأجيال المتعاقبة، وكل ذات بشرية تحمل موروثاً ثقافياً وحضارياً من اللغة والعادات، الثقافة العامة، العلاقة مع الأرض، السياق التاريخي، الآلام والآمال، الإحساس بالمشاركة، وهدا الموروث الثقافي يعطي لأهلها دوام الأمان والاستقرار والقدرة على الإبداع والعطاء وبناء المستقبل.

وعند ترك المكان بسبب التهجير، أياً كانت أسبابه، يضرب الوجود المادي المتمثل بالأرض والإرث الثقافي والعلائقي،  مما يؤدي إلى الشعور بالانكسار والتشتت من الداخل والتشظي من الخارج).

وهذا ما حدث في معلولا أو أي منطقة أخرى ممن هُجِّر أهلها حيث يؤدي ترك المكان والناس إلى الانتقال من حالة الانتماء إلى حالة الانكسار.

وحالة الانكسار هذه تؤدي إلى ضرب الإحساس  الطبيعي السليم بالذات الحقيقية والهوية والانتماء، وتشكل سداً داخلياً نفسياً مؤلماً، يؤدي إلى قطيعة عن الجذور والأصول، إلى شعور بالنقص والتشتت، وحنين لا يرتوي، وجرحٌ لا يشفى إلا بالعودة إلى المكان مع ساكنيه والتطلع من جديد للاستقرار فيه.

ولكن وبعد تمكن الإنسان من العودة  إلى أرضه وإرثه بعودة الأمان  وبهذا اللقاء مع ناسه ورموزه التي يعرفها تتلاشى الأحزان وتخف الآلام وتعود الراحة والأمان تدريجياً ويبدأ بترميم إحساسه بهويته وذاته وانتمائه ويختلف كلياً شعوره تجاه وطنه ويبدأ بالعبور أي الشفاء.

بعلم النفس نقول عَبَرَ الإنسان من مشكلته أي تجاوزها، والعبور إذاً هو  انتقال من مكان إلى مكان أفضل. ويتجلى العبور بالقدرة على إدراك التجربة المريرة والاعتراف بالمصيبة وفهم أسبابها ونقدها وحملها من جديد، وأهم شيء تحمل المسؤولية في عملية البناء والنقد، الذي يؤدي إلى التقدم والتغيير نحو الأفضل.

العبور إذاً هو حالة إيجابية، حالة شفاء تؤدي إلى إعادة بناء الإنسان والمجتمع  من جديد  وفق أسس ومفاهيم جديدة  بطريقة أفضل مما كان عليه فتخيلوا! عبر التاريخ أثبتت تجارب الشعوب قدرة لاواعية على العبور والاستمرارية وإعادة بناء المجتمع، وإليكم التجربة اليابانية والصينية والأوربية مثلاً ودائماً الفلسطينية.

وليتم الشفاء والعبور لابد للفرد والطوائف والأحزاب والجماعات والعشائر والأقوام والإثنيات من تحمل المسؤولية ونقد المفاهيم الوطنية والدينية وتصحيحها لتعبر وتنفتح  على الوطن، على الإنسانية، على الذات الحقيقية  وتنصهر في حضن الوطن الذي يقبل كل مختلف ضمن نسيج اجتماعي واحد اسمه الوطن السوري. عندها تتطابق الذات مع الوطن ومع الإنسان، لتتم المصالحة ويتم العبور والشفاء الحقيقي. مصالحة مع ذواتنا ومن حولنا لنتحرر من  الانكسار والانغلاق الذي  لا يثمر إلا موتاً وضغينة وينبع من هوية قاتلة لا تقبل الآخر!

في معلولا وخلال مسيرة الشموع عشت  اختباراً مذهلاً فكنت جزءاً من جماعة عبرت نحو الوطن والهوية الحقيقية التي تثمر سلاماً واتزاناً وحباً،كنت جزء من جماعة احتملت مأساتها وعاشتها والآن عبرت منها بسلام.

من معلولا نقول:نحن شعبٌ عربيٌ سوريٌ ثبت بأرضه رغم المصائب والمحن، وغلب بحياته الموت، وحمل الصليب إلى  أن اختبر فرح القيامة الذي نتمناه لكل سوري وسوريّة، لكل مكان على وسع الوطن.

من معلولا نقول: نحن شعبٌ عربيٌ سوريٌ اختبر مسيرة حقيقية من الانكسار والعبور  نحو الوطن لينادي (من معلولا.. هنا الوطن) نداءٌ نتمنى أن  يعم كل سورية لننادي من كل مكان  فيها (هنا الوطن) وما أغلاك يا وطن!

العدد 1140 - 22/01/2025