سورية تزفُّ أبناءها
هي الأصل ومن ترابها عُجِنَت أجسادنا، هي الحياة ومن مائها تُروى عروقنا، هي الأمّ التي عانت وعانت، وما زالت تحضنُ أبناءها. اعتادت على الخيانة، واعتادت على النصر، ثُكلَت كثيراً واتشحت بالسواد، وعادت وزغردت ولبست ألوان ربيع أيّامها.. وقفت وانتصبت كشجرة سروٍ عظيمة وباركت شهداءها واحتفلت بعيدهم ذكرى وانتصاراً.
عيد الشهداء وُجِدَ بسبب تنفيذ السلطات العثمانية لحكم الإعدام بحق عدد من الوطنيين السوريين في كل من بيروت ودمشق. على أساس (اتهامهم) بالخيانة والاتصال بجهات أجنبية والعمل على فصل البلاد العربية عن الدولة العثمانية. فأصدر جمال باشا السفاح حكم الإعدام على أحد عشر وطنياً، وتم إعدامهم في بيروت في 21 آب عام 1915 وجرى تنفيذ الإعدام أيضاً بأربعة عشر وطنيّاً في ساحة البرج في بيروت، وسبعة في ساحة المرجة بدمشق، وكان ذلك في 6 أيار من عام 1916.
تخلّد هذا اليوم، وصار ذكرى سنوية يحتفل بها السوريون بأكرم من في الدنيا، بالأحياء عند ربهم، بأبناء سورية العظيمة الذين استشهدوا ليدافعوا عن وطنهم وحريته واستقلاله، عن عزته وكرامته، عن أبنائه ومستقبلهم.
لقد اعتاد السوري على ظلم الخارج له، فقد تواكبت عدة احتلالات ووصايات، ومنذ غابر زمانه يضحي بدمه وجسده ليبقى الوطن لأصحابه السوريين.
وحتى الآن، وفي القرن الحادي والعشرين، عصر النهضة والانفتاح وما يسمى بالحرية، مازال السوري يدافع عن حقه في الحرية والحياة الكريمة. أتوا إلينا من مختلف الثقافات، غربية وشرقية، ليحطموا عزّة السوري، خططوا ليخربوا مستقبلنا، تحالفوا ليدمروا مستقبلنا لنصل اليوم إلى آلاف المهاجرين وآلاف المهجرين وآلافٍ من الشهداء.
نقول لنفسنا تارةً: أسيكتب علينا هذا الحال لأجل قضية وهمية، أو لأجل مصالح سياسية، أو لأجل حفنةٍ من تراب.. ومن ثم نذكر أن بلادنا منذ آلاف السنين هي هدف الغزاة، ففيها من ثروات الغنى الكثير، مناطق طبيعية رائعة، حضارة ثقافية عريقة منذ أول عاصمة يقطن فيها بشر، ثقافات دينية كثيرة منذ الآلهة عشتار، مناطق حدودية مركزية تتصل بها بلاد وبلاد، عدا ثرواتها الباطنية من نفط وغاز، وثروات العقول السورية العظيمة التي يحاولون الآن تدميرها بالموت أو التشتت أو التخلف الاجتماعي والثقافي والديني والعلمي.
ولأن السوري يرفض، مازال يدافع عن وجوده، عن حضارته العريقة، عن ثرواته الكثيرة، وعن إيمانه بحقه في الحياة الكريمة. مازالت الأم السورية تَبكي وتُبكي، وها هي ذي ترسل أبنائها للموت بيديها على أمل أن تعيش سورية الأم، سورية القديسة، الشهيدة الحية التي لن تموت، بل ستحيا لتكون رمزاً لحياةٍ متجددة.
بالأمسِ سمعتُ زغردةً لأم شهيدٍ، راقصةً، تغني الأهازيج، تزف ابنها العريس وتحيي سورية أمها، وتقول بأن ولدها ما هو إلا فلذة من كبد أمه العظمى التي عليه أن يموت لأجل أن تحيا، هي وكل باقي أبنائها. استغربت وفرحت، بكيت وابتسمت، علمت وتيقنت أن حالنا هذا لن يبقى طويلاً، بل سيكون هناك نصر يداوي هذه الجراح. وسمعتُ أيضاً عن قصةً لشابٍ سمعت والدته بخبر استشهاده، وبعد ساعاتٍ قليلة أتاها صوته مطمئن.. عشتُ حالها، فأحسست بقلبي قد مات وعاش، وبروحي قد كفرت ومن ثم آمنت، وكره عقلي البلد ومن ثم عشقه … توجعت كثيراً لكل أمّ سمعت خبر استشهاد ابنها ولم يأتها تكذيب الخبر، فرحت بفرحٍ عارمٍ للأم التي استعادت أنفاسها بسماع نفس ابنها الجريح.
كان لسورية يومٌ لعيد الشهداء، وأما اليوم فيا لذاك العيد .. فلم يعد يكفي يوم، بل صار كل يوم .. لكني سأشبه أيام استشهاد شبابنا اليومي بساعات المخاض العصيبة، فلا بد للمولود -النصر- أن يُنسينا كل العذاب الذي مرّ، ونتمنى أن يكون هذا المولود بصحةٍ جديدة، ودون أي إعاقاتٍ حربية أو أخطاءٍ طبية أو أمراضٍ وراثية .. نأمل أن يأتي مختلفاً عن باقي الأطفال، نريده أن يضحك حين يولد، لا أن يبكي ، حينئذ نتأكّد أنه واثقٌ بشعور الأمان الذي سيراه في حياته،وبأنه مشابه لحياته في رحم أمه..
التحية لروح كلّ شهيد، الحبّ لكل أمٍّ سورية، الوفاء والنصر والمستقبل لسورية العظيمة!