التسول غير مشروط بالبطالة

هل ظاهرة التسُّول هي مسؤولية الأسرة أو المجتمع أو حتى الدولة بالكامل.؟

أقول لا، هي ليست مسؤولية أحد، سوى مسؤولية المتسّوُل نفسه فقط، لأنه مهما كثرت النظريات، ومحاولات وأساليب المكافحة، أو الحد من هذه الظاهرة، تعجزً أرقى المجتمعات، وحتى الدول المتطورة والمتقدمة في كل المجالات عن وضع الحلول أو التخطيط لإزالتها، وتبقى كل الحلول والإجراءات المتخذة فاشلة حيال هذا الموضوع الذي يبدو- وهو في الحقيقة كذلك- معقداً جداً وعصياً على الحل بشكل كامل أو جزئي.

ذلك أن ظاهرة التسول هي عمل فردي شخصي، وليس تنظيماً جماعياً، وإن بدا في بعض أشكاله أو دلائله كذلك، لكنه بالنتيجة تنفيذ الشخص بمفرده، والذي لا يمكن شموله بأية قوانين، أو منعه نهائياً من مزاولة هذا العمل، مهما تطورت هذه القوانين، فهو حر الحركة والتنقل، لا يخضع لظروف الزمان أو المكان أو الجهة أو معرفة القصد.

التسول هو نتاج مسؤولية الحاجة المادية في البداية، التي يتعرض لها الشخص المعاق، العاجز عن إيجاد عمل يناسب إمكانياته البدنية والنفسية، وقد يستسهل المتسول منذ البداية هذا الأسلوب الذي يمكن أن يدرّ عليه مالاً بدون بذل الجهد، فيستمر في ممارسته، ويرفض العمل المنتج الفعلي وإن توافر له.

منذ بدء التاريخ البشري، ومن دراسة هذا التاريخ عبر القصص والحكايات والروايات والأعمال الفنية من لوحات وأفلام وبرامج منوعة، نجد شخصية الرجل المتسول، أو (الشحّاذ) المعروف بهيئته وشكله ولباسه وحركاته المميزة أمام التجمعات البشرية، من دور عبادة ومقاهٍ وأسواق، وأي تجمعات أخرى ثابتة كانت أم مؤقتة.

كان المتسول في البداية، هو الرجل بهيئته المميزة باللباس اللافت للنظر، وقد يضع النياشين المصطنعة، والقطع الملونة والمزركشة على كتفيه وعلى قبعته الغريبة أيضاً، ويضع أمامه صندوقاً صغيراً أو قبعة يجمع بها ما يُرمى له فيها من العابرين، دون أن يطلب ذلك مباشرة، بل يقوم ببعض الحركات الضاحكة، أو ببعض النشاطات على آلة موسيقية صغيرة للفت نظر الناس إليه، وهذا ما يُسمى بالتسوّل غير المباشر.

في مجتمعاتنا الشرقية القديمة والحديثة أيضاً، عرفنا شخصية الرجل الدرويش المبروك، الذي يتسول عن طريق الدعاء والتذكير بالفرائض الدينية وما شابهها.

لم يكن للنساء ذكر في مجال التسول حتى وقت قريب، حيث كانت المرأة بكل معتقداتها، ورغم كل حاجاتها المادية حريصة على أن لا تكون عرضة لمخاطر التجول الظاهر والواضح في الأماكن العامة.

وهناك أيضاً بعض الشعوب التي امتهنت ظاهرة التسول من ضمن الأعمال الخفيفة التي يعملون بها كالموسيقا والغناء، وليس سرّاً أن نسميهم الغجر الذين امتهنوا ذلك وانتشروا في كل بقاع الأرض. صحيح أن بعض الشرائع والأديان حضّت على التعاطف والإحسان والبر، وأن المنظمات والهيئات الأهلية والمدنية، درجت على تقديم بعض المساعدات المالية والمادية للمحتاجين، لكن هذه المساعدات تبقى عاجزة ومحصورة في تقديم الخدمات لعدد محدود فقط.

وحديثاً، انتشرت ظاهرة التسول في بلادنا بطريقة سرطانية وكبيرة، فامتلأت الشوارع والساحات والأماكن بأعداد كبيرة من المتسولين و(الشحادين)، ولكن مهما زاد عدد من يعمل بهذه الظاهرة، أكرر ما قلته في البداية، تبقى ظاهرة فردية غير منظمة، ولا يمكن وضع القوانين لتحديدها أو منعها، وأعتقد أنه ليس لحالة انتشار البطالة، وعدم وجود فرص عمل في الدولة علاقة بذلك، لأن من يمتهن التسول لن يلتزم بعمل وإن تحقق له.

العدد 1140 - 22/01/2025