العمل حضارة وثقافة
بالتأكيد إن العمل والأيدي العاملة، هما احتياجان لا يمكن استمرار الحياة من دونهما، نحتاج إليهما كاحتياجنا إلى وجود الماء والهواء في حياتنا. كلُّ ما بين أيدينا من وسائل معيشة، من سكن وغذاء وتعليم وتنقل واستشفاء، هو نتيجة وجود العمل والأيدي العاملة. في كل المجتمعات يبلغ عدد العاملين الفعليين أكثر من ثلث عدد السكان، والثلثان الباقيان هما الأطفال والصغار والشباب تحت سن العمل، والكبار في العمر المتقاعدون عن العمل، وبعض النساء اللواتي أغلبهن غير عاملات، وأغلبهن ربات بيوت وإن كانت إدارة البيت هي نوع من العمل الذي لا بد منه أيضاً.
من المسائل التي تثير الجدل دائماً، هو أن يكون عدد العمال الإداريين خلف المكاتب، تتجاوز نسبة عدد العاملين المنتجين فعلاً، مما ينتج عنه الحديث حول البطالة المقنّعة، التي تعرقل حركة الإنتاج وتزيد من كلفته ومصاريفه دون جدوى، بل تؤدي إلى خسارة مادية للمنتج والعمل دائماً، وتسبب نوعاً من الفوضى في تعدد الإدارات والتعليمات والآراء وتشتّتها، وعلى رأي المثل الشعبي (عندما يكثر الطباخون، تحترق الطبخة)، وهذه البطالة المقنّعة نجدها غالباً في المجتمعات المتخلفة، التي يكون إنتاجها لا يفي بالغرض الذي أنشئت المؤسسات الإنتاجية لأجله، لسوء الإدارة وعدم اهتمامها بالمصلحة الجماعية العامة، فتعتمد على الاستيراد للمواد نفسها التي تكون لديها فعلاً القاعدة المادية لإنتاجها، ولكن يجري إهمالها لعدم وجود ثقافة الإنتاج المسؤولة.
في الحديث عن العمل والعمال، لا بدّ أن نذكر تساؤلاً ما زال يحز في نفس المواطن المستهلك للمنتج في الدول المتخلفة اقتصادياً وصناعياً وحضارياً، التساؤل هو كيف تختلف مواصفات السلعة نفسها، بين الدول المتقدمة والدول المتخلفة، مع أن المواد الأولية تكون هي نفسها، ووسائل الإنتاج هي نفسها أيضاً، ذلك يدل على أن العمل يحتاج إلى ثقافة متقدمة أيضاً، هي ثقافة الوعي والصدق والتخطيط الجيد المبرمج لإنتاج السلعة، وليس عن طريق إنتاج عشوائي ارتجالي، غير مخطط وغير مدروس.
مع نمو اقتصاد السوق وانتشار وسائل التواصل والإعلام والنقل، صار الكل يعرفون منتجات البلدان الأخرى، وصار الكل لديه ثقافة المقارنة بين المنتجات في الدول المتخلفة والمنتجات في الدول المتقدمة، التي صارت تسيطر على أسواق العالم وتزيد من نمو مجتمعاتها، بينما منتجات الدول المتخلفة تصير عبئاً متراكماً، لعدم التزامها بشروط الإنتاج الصحيح ومواصفاته، وصارت الأسواق العالمية سوقاً واحدة ضمن منظومة العولمة التي صارت غربالاً ترمي المنتجات السيئة وتسمح بتبادل المنتجات الجيدة.
سابقاً في شعاراتنا المخزونة من الثقافة الاقتصادية السياسية، كنَّا نقسم العالم إلى قسمين هما النظام الاشتراكي والنظام الرأسمالي، ولكن الآن أقترح رفض المصطلحين السابقين، والاستعاضة عنهما بتقسيم العالم إلى مجتمعين، مجتمع متقدم اقتصادياً وحضارياً، ومجتمع متخلف اقتصادياً وحضارياً، ولا نقول مجتمعات نامية، لأن فترة طور النمو تجاوزت نصف القرن ولم تخرج من التخلف، فهي متخلفة اقتصادياً وحضارياً دائماً.
في المجتمعات المتقدمة حضارياً لا توجد مشاكل حقيقية يعاني منها العمال، فالنقابات والهيئات المدنية والمؤسسات والتأمينات والقوانين الصحيحة هي التي تحكم وتنظم عمل العامل ومنتجاته، وهي أنظمة مدروسة بشكل صحيح، وهي تدافع عن حقوق العامل الفعلية، بلا أي التباس أو مواربة. أما في المجتمعات المتخلفة فالعامل يعاني من قوانين ارتجالية غير ثابتة وغير منصفة لا تضمن له أي حق من حقوقه، بسبب التخلف الثقافي والفكري للإدارات المتسلطة عليه، والنقابات والهيئات المدنية في المجتمع المتخلف هي دائماً ضد العمال بسبب ارتباط أعضائها بمصالح شخصية فردية مع الإدارات المتسلطة.
التقدم العلمي والصناعي هو حالة إيجابية بالنسبة للعمل والعمال، هو بالتأكيد يأتي دعماً للخطط والتخطيط، وفق برامج دراسة المواد الأولية ودراسة وسائل الإنتاج ودراسة طبيعة الأيدي العاملة، وتنظيم العلاقة الصحيحة بينها للوصول إلى منتجات مرغوبة لدى المستهلك الذي يميّز بين الجيد والرديء.
عند الحديث عن أي موضوع، لا بدّ من التساؤل عن وضع المرأة في المجتمعات سواء المتقدمة أم المتخلفة، فوضع المرأة العاملة في المجتمع المتقدم لا يعاني من أي مشكلة فهي خاضعة للقوانين الإيجابية نفسها التي يخضع لها العامل الرجل. أما في المجتمعات المتخلفة فهي حتما تابعة لأهواء قهرية تفرضها عليها الأعراف المتخلفة ثقافياً ودينياً واجتماعياً، إذ ينظر إليها على أنها كيان غير مكتمل النمو الفكري، وغير كاملة القرار والرأي، فتتعرض لضغوط متعددة في العمل كما في أي مجال آخر.
وأخيراً فأنا أجد أن أفضل نظرية في الاقتصاد كي تتقدم المجتمعات بالعمل وبالأيدي العاملة هي قول جبران خليل جبران:
(ويل لأمة تلبس مما لا تنتج، وتأكل مما لا تزرع)!