… قنديل في دروب الأبناء
كما للبناءِ أساساته وأعمدته التي يرتكز عليها، فتجعلهُ قوياً متماسكاً، يقاوم الأخطار والصدمات التي تواجهه، ويرتاح إليه سكانه، كذلك في الأسرة، سيكون الأب والأم حتماً هما أساسها وأعمدتها، وليس إنقاصاً من شأن الأم أن نقول إنها تكون أقوى إن كان الأب قوياً متماسكاً نفسياً وصحياً وفكرياً، تقوى بقوته وتضعف بضعفه، وتماسكهما وقوتهما معاً هي الراحة النفسية والترابط الأسري للأبناء، الذين لا يمكنهم إيجاد طريقهم الصحيح في الحياة والمجتمع دون إضاءته بإشعاع حضور الأبوين.
أجد أن الأب الأول الذي قطف التفاحة المحرمة في الأسطورة الدينية، دون أن يفكر في عواقب فعلته، كان ذلك هو الدرس الأول ليُفكّر الآباء اللاحقون، بأن أي خطأ منهم سيجرُّ الأبناء كلهم إلى أخطاء تفسد حياة الجميع، ذلك الدرس أعطى الآباء فيما بعد أسلوب التفكير في النهج الصحيح ليتبعهم الأبناء بشكل سليم وسويّ، والعمل دائما ليكونوا بعيدين عن الأخطاء بكل أشكالها، والابتعاد عن الأخطاء هي رغبة الأب وحلمه وطموحه وغايته في تربية أبنائه، فهو والأم الوحيدان اللذان لا يتمنيان أن يكون أحد أفضل منهما سوى أبنائهما.
الأب هو رمز الأسرة مشاركة مع الأم، والأبوة هي غريزة وعاطفة يسعى إليها الإنسان ليكون له أبناء كرغبة شخصية، وكحاجة لاستمرار الحياة البشرية في الكون، وهي غريزة تفرض نفسها فطرياً وتلقائياً في نفس الإنسان وشهوته، وتباركها الطبيعة الإنسانية والحياتية والقوانين والأنظمة والأعراف والتقاليد، في كل المجتمعات والتجمعات البشرية.
اختار المجتمع الدولي أن يكون هناك يومٌ يسمى عيد الأب، في الحادي والعشرين من حزيران من كل عام، تُعَدُّ به الدراسات والتوصيات، لإظهار دو الأب ومكانته في تعزيز الترابط الأسري، ومكانته في بناء شخصيات الأبناء وتعزيزها ، وإظهار التأثيرات النفسية السلبية على غيابه، إن كان غياباً فكرياً، أو غياباً مادياً أو نفسياً. منذ بداية المدارك الحسية الأولى للطفل، يبدأ بالتعرّف على وجود الأب في حياته كقوة هائلة، تحميه وترعاه وتبعد عنه الأخطار، قبل أن يتعرّف على قوة الإله فيما بعد، ويشعر الطفل بكل إحساسه، منذ بداية وعيه، بحاجته إلى هذا الأب في كل لحظة تمرُّ من حياته.
يستجيب الأبناء لعدة مراحلٍ، في تعاملهم مع الأب، وفي تعامله معهم، فالمرحلة الأولى هي مرحلة الحماية والرعاية والتنشئة البدنية والصحية، ثم مرحلة الإشراف على التفكير والتنبيه والوعظ، ثم مرحلة النضوج للأبناء حيث يكون دور الأب فيها المشورة والمتابعة، وهنا يندمج المستوى العقلي والفكري والواقعي بين الأب وأبنائه، ويحدث التلاؤم والتوافق في أمور الحياة بينهما، لاختيار الطرق الصحيحة لمواصلة الحياة، بشكل جماعي أو مستقل، حسب طبيعة الحياة التي تفرض نفسها حتماً في بعض الأمور.
مِنْ أولويات تعامل الأب مع أبنائه، هو السعي دائماً إلى فرض القيم الإيجابية وتعزيزها لديهم، كالدين والإيمان بالعقيدة المتبعة، والشجاعة، والتصميم والإرادة، والصدق والعمل المفيد للفرد والمجتمع، وطلب العلم والتعلّم، وحب الوطن والأهل والتعاون وصلة الرحم، والتجربة والاكتشاف والصبر، والتعرّف على الحياة بشكل صحيح وإيجابي وفعّال، ودائما يتمنى الأب لأبنائه، أن يكونوا مرآة للإنسان الطيّب الذِّكْرِ في المجتمع.
ليس من المبالغة في الشعور وفي الحقيقة، القول إن وجود الأب في الأسرة هو بمثابة وجود الإله، الإله الراعي لرعيته، المشرف عليهم بتوجيهاته وتعليماته ويقظته والسهر على صحة خطواتهم ومصالحهم وسيرهم في طريق الحياة، الذي سيكون مظلماً لولا وجود النور الهادي الذي يعمل الأب على بقائه منيراً في طريق أبنائه، ولا شك أن غيابه لأي سبب هو انطفاء لذلك النور، الذي سيتعب من دونه الأبناء وقد يتعثرون في الكثير من العوائق الصعبة، في خطواتهم من دونه.