مجنون يحكي و عاقل يسمع..!
يقول الشاعر الكبير نزار قباني في كتابه الذي يجمع أعماله النثريّة:
(ما دام هناك مواطن عربي واحد.. لم يستطع أن يحضر أمسية شعرية لي، بسبب عرقلة السير أو لأنه لا يملك أجرة أوتوبيس.. فسوف أحمله على كتفي.. لأنني لا أستطيع أن أبدأ الشعر إلاّ به.. ولا أستطيع أن أنتهي إلاّ به) ص85.
من هذه المقولة الخالدة، خلود ياسمين دمشق، نستطيع أن نتعرّف على المحرّض الأساسي للشاعر كي يسكب عصارة فكره وخلاصة سعيه ودأبه في كأسٍ تمتعنا وترتقي بمشاعرنا في سموها وعظمتها إلى الأعلى. فالشاعر الحقيقي والكاتب الحقيقي لا يكتب من أجل نفسه، وأقصد هنا الشهرة في المجتمع.. أو من أجل منفعة ماديّة كتلك التي يحصل عليها لقاء أمسية أو مقالٍ ينشر هنا أو هناك وفي أكثر من دوريّة وبعد القيام بالعديد من الاتصالات.. بل يكتب للناس ومن أجل الناس. ولكن.. هل من المقبول أن نجد هذا العزوف عن حضور بعض الأمسيات الثقافيّة إن لم نقل معظمها؟!
هل يكتب الشاعر من أجل الحصول على بعض الدراهم التي لا تكفيه أجور تنقّل كي يستمع لأدبه عدّة أفراد لا يتجاوزون عدد أصابع اليد الواحدة ؟!. ثمّ لنتساءل عن عدم حضور العاملين في المراكز الثقافية للنشاطات التي تقام في مراكزهم..!! أليسوا المعنيين بالأمر أولاً؟!. فإذا كان رب البيت لا يهتم لحال الضيوف، فكيف نوجه العتب إلى الجيران؟!
وبالعودة إلى مقولة الشاعر الكبير نزار قباني فإننا الآن لا نعاني من ندرة المراكز الثقافية، تلك التي نحتاج كي نصل إليها إلى مبالغ كبيرة وإلى قطع مسافات شاقة، فالمراكز الثقافيّة موجودة في معظم المناطق، بل والنواحي أيضاً وقد عملت الحكومات المتعاقبة على ذلك!. إذاً أين المشكلة في عزوف، كثيرين عن حضور الأمسيات الشعرية..؟ هنا أقف أمام احتمالين:
الأول عدم قيام المعنيين في المراكز الثقافية بما يجب القيام به لجهة الدعاية والإعلان عن النشاطات الثقافية التي تقام ومواعيدها بدقة، والاكتفاء بتوجيه الدعوة لبعض الفعاليات التي لا علاقة لها أحياناً بالثقافة !. لا لشيء إلاّ لعدم امتلاكها الوقت الكافي للحضور!!
الثاني يتعلق بالأسماء التي تُستدعى للقيام بتلك النشاطات والتي أعلم جيداً أن بعض مديري المراكز يقعون تحت ضغط (الواسطة والمحسوبيات) فيرضخون لهم ويقومون باستدعاء من لم يمتلكوا بعد ناصية الكلمة والصورة.. وهنا تكمن المصيبة الكبرى!
وهنا اسمحوا لي أن أروي لكم هذه الحادثة الطريفة : منذ عدّة أيام كنتُ في زيارة لأحد المراكز الثقافية، وصادف وجودي هناك أن دخل أحد الأشخاص الذين يتعاطون الكتابة وبيده مجموعة من الجرائد، وبدأ يقلّب صفحاتها بشيء من العصبيّة وعندما لم يجد مقالته (الرائعة) حسب رأيه زفرة قوية وتنهّد قائلاً :
من المؤكد أنهم لن ينشروها!.. لقد اتصلت بهم أكثر من مرّة ولكنهم لن ينشروها.. عندئذ قرر (الكاتب العظيم) أن يخطّ رسالة للمسؤول عن إعداد الصفحة يعاتبه فيها لعدم نشر المقالة. وعندما صادفته في الرسالة كلمة فيها همزة متوسطة، توقّف قليلاً وسأل عن كيفيّة كتابتها. وبين إصراره على رأيه الخاطئ وإصرار الحضور على القاعدة الواضحة لكتابة الهمزة المتوسطة قرر أن يكتب كلمة مرادفة لا تحوي همزة !. هكذا استطاع حسب رأيه الخروج من مشكلة الهمزات!
بربكم.. أيعقل هذا؟!. كاتبٌ يعتب لعدم نشر مقالته (الفلتة) حسب زعمه ولا يعي كيف تكتب الهمزة المتوسطة، إذا جاءت بعد حرف ساكن..! أيّ جمهور سيحضر، وأي مقالات تنشر، وقل إنّا أعطيناك الكوثر!
أعتقد أنّها هزلتْ قليلاً ويجب إعادة النظر في مصطلح مثقف، شاعر، كاتب، متطفل، أديب، أستاذ. دكتور.. مفكّر.. ثمّ.. أليس من الأجدى العودة إلى الكتب المدرسيّة لنتعلم مع أولادنا قواعد اللغة العربية وأصولها كي نتمكن من العوم في بحر الأدب.. مجنون يحكي وعاقل يسمع.. وفهمكم كفاية؟!